كان الإعياء قد بدأ يشل طاقتي بسبب أخبار الربيع العربي الذي زادت أعراضه الارتكاسية التحسسية، فجاءتني دعوة افتتاح مهرجان دبي السينمائي في دبي في دورته التاسعة منقذاً ومداوياً. ذهبت لأكتشف أن العرب قد فوتوا على أنفسهم فرصة كبيرة هي المتعة البصرية حين ضيعوا ماضيهم في الاشتغال بالمتعة اللغوية وانغمسوا في زخرفتها حتى ضاع المعنى وصاروا يقولون ما لا يفعلون.

Ad

 استطاعت دبي بهذا المهرجان أن تكون نجمة في ظلام  الفوضى العربية  وبريق ضوء في عتمة الخصام والشقاق والزيف، فجاء مهرجانها التاسع ليثبت أنه وردة زرعت في مشقة العطش، فأزهرت رغم  شقوق الأسمنت وعناد المقاومة، وها نحن اليوم نشهد صناعة سينمائية بعيون محلية تنطلق من دبي والرياض والبحرين والكويت وتدخل في مسابقات المهرجان الخليجي والعربي وغداً ستنافس في الدولي، وقد كانت مفاجأة المهرجان السارة لهذا العام دخول المبدعة المخرجة هيفاء المنصور بفيلمها السعودي "وجده" الذي صور كله في الرياض ضمن مسابقات الأفلام العربية الطويلة، وهذا بحد ذاته حدث كبير.

في هذا العام جاء مهرجان سينما دبي مصلاً واقياً من بؤس السياسة، وعلى العرب أن  يتعلموا منه ويتوقفوا عن صنع الكلام الذي ما أورثنا إلا الكذب والنفاق والشقاق، وأن يتحولوا إلى صناعة الصورة فصناعة الصورة تهذب الذوق وتنمي جماليات الحس وترقق المشاعر وتحفز الخيال وتعالج بؤرة التفكير السوداء، لا يمكن للعرب أن  يتطوروا وهم لا هَمّ لهم غير تنمية العضلات التي تسفر عن قتل الآخر لمجرد أنه يمتلك رأياً مختلفاً، وصناعة الصورة تكشف أنها لا تكون أحلى إلا حين تكون متعددة الألوان. يجب أن نتوقف عن التباهي بمنطق الغاب وأن نتمايز بمنطق الحضارة.

اختار المهرجان أن يكون الافتتاح  بفيلم "حياة باي" للمخرج التايواني "آنغ لي" وبممثلين من الهند. وهو فيلم عصي على الوصف من شدة سحره. فيه تغرق سفينة وتولد معها حياة شاب صغير فقد أهله في البحر هائماً على وجهه أياماً وليالي، ورغم بؤس الحكاية فإن المتفرج لم ينفك عن الدهشة بسحر الصورة التي حركت عميق إيمانه بسحر الكون، وسحر الحياة وعالم البحار وأعاجيبه. لقد ظهر البطل طفلاً مؤمناً في الدقائق الأولى متصالحاً مع الأديان ينشد الله في هندوسيته ثم مسيحيته ثم وهو طفل يصلي في مسجد المسلمين، ولا ينتهي الفيلم إلا بتجديد الإيمان. كانت لوحة طويلة من المتعة البصرية التي عرفنا لاحقاً أن جيمس كاميرون صاحب فيلمي "أفاتار" و"تايتانيك" كان شريكاً في صناعتها، فقد أصبح خبيراً ومرجعاً في تصوير الماء والغرق. صناعة الصورة هذا العالم الجديد الذي لم ندخله بعد لأننا معتقلون في حرب الكلام. ما أدهشني أن هذا الفيلم أيقظ عقلك ومشاعرك وانحيازك إلى الإنسان واحترام معتقده والإيمان بالله، هل هناك سحر يجمع بين الفلسفة والإيمان والصورة والكلمة إلا في صناعة مثل صناعة السينما؟!

اصنعوا سينما كي تصبح خلافاتنا أقل، وكي تتجلى رقتنا ويسطع جمال عالمنا بدلاً من أن نصبح أخباراً عاجلة في نشرات الأخبار الطويلة وفي فن الانقضاض على حرمات الدم والعرض والمال.

يقول بطل الفيلم إن الرعب هو الذي أبقاه متنبهاً وحافظ على حياته، وأنا أقول إن علينا أن نحوّل نحن أيضاً رعبنا إلى مادة للحياة لا للموت والخوف.