استباحة المساجد
نحن اليوم في عصر الإسلاميين الذين يعيشون أزهى عصورهم، أعني الأيدلوجيين الساعين للحكم والسلطة والذين يحملون رؤية شمولية لأسلمة المجتمع والدولة ونزعة انتقامية من الأنظمة السابقة، ركبوا ظهر ثورات الربيع العربي سريعاً وهم اليوم في طريقهم للاستحواذ على مفاصل الدولة والهيمنة على مؤسسات المجتمع في بلاد الربيع العربي.هذا زمانهم من غير منازع وهذه أيامهم والأيام دول، لقد عانوا طويلاً في ظل أنظمة تسلطية وتعرضوا لمحن كثيرة لكنهم كافحوا وثبتوا وصبروا فإن لهم أن ينعموا بقطف الثمار وينتقلوا من أقبية السجون إلى سدة الرئاسة وليأمنوا بعد خوف مصداقاً لقوله تعالى "وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً".
لقد ولى زمن القوميين الذين تسلطوا على رقاب العباد طويلاً وأفسدوا في البلاد كثيراً كما مضى زمن اليساريين الحالمين المتهورين، يذكرني حال هؤلاء بحال الشاعر جرير واقفاً باب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يلتمس الدخول فلا يؤذن له، إذ يرى صاحب العمامة يؤذن له بالدخول وهو ماكث بالباب يتحسر على زمن كان الشعراء يتزلفون إلى الخلفاء فيمدحونهم فيجزل لهم العطاء، حتى إذا جاء الخليفة عمر قطع عنهم العطاء لأنه من غير وجه حق، أنشد جرير قائلاً:يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك قد مضى زمنيأبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه إني لدى الباب كالمصفود في قرنلا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن وطنيلكن المجتمعات الإنسانية في تلك الأيام كانت تعيش إسلاماً حقيقياً في السلوك والقيم والأخلاق وكانت المروءات تشيع في المجتمع لا إسلام المظاهر والشعارات والأيدلوجيا كما هو الحال في أيامنا، كانت الحضارة الإسلامية صاعدة وكان المسلمون سادة الزمان.إسلاميو عصرنا يقولون ما لا يفعلون ويتظاهرون بخلاف ما يبطنون ويعدون بما لا يلتزمون، يتجاوزون ويستطيلون على الآخرين وكأنهم ملك الفضاء المجتمعي، يستغلون بيوت الله تعالى لأغراضهم الحزبية ويوظفون سلاح الفتاوى ضد خصومهم يستبيحون المساجد في الدعاية لمرشحيهم، يفرضون آراءهم السياسية على المسلمين كأوامر شرعية تحرم مخالفتها، يقولون للناخبين صوتوا لفلان ولا تصوتوا لفلان، وكأنهم وكلاء الله تعالى في الأرض، ويرون أن ما تقول ألسنتهم هي شرع الله لا تقبل جدلاً أو نقاشاً، مثلهم مثل من حذر الله تعالى من عملهم "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام"، إلا بأي حق يطلقون فتاوى تحرم التصويت لشخص وتفرضه لآخر؟! ظاهرة استباحة المساجد للأهواء السياسية ظاهرة خطيرة يجب التصدي لها وعدم السكوت عليها وهي مسؤولية وزارات الأوقاف والجهات الدينية أولاً، كما أنها مسؤولية الدعاة والمثقفين والنشطاء وجمهور المسلمين أيضاً، هذا الخطيب المؤدلج الذي يصرخ من على المنبر: انتخبوا فلاناً وأسقطوا فلاناً وإلا كنتم آثمين! هو الآثم ولا مصداقية له فهو فضلاً عن استغلاله منبر المسلمين بدون وجه حق فإنه لا يؤمن بالديمقراطية ولا يحترم القانون ولا حرية الناخبين بل يدوس مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص وقواعد اللعبة الانتخابية!وللمرء أن يتساءل: إذا كان انتخاب مرشح معين واجباً شرعياً ففيم إتاحة الفرص للجمهور لاختيار من يرتضونه؟! ولماذا تكبد التكاليف والاستعدادات لعملية الانتخابات؟! وإذا كان اختيار مرشح لا يرتضيه هذا الخطيب إثماً فإن الملايين الذين صوتوا له كلهم آثمون! وهذا تماماً هو المنطق الإقصائي الذي يؤسس لديكتاتورية دينية أشد وأعظم من الديكتاتوريات السابقة والويل لأمة تستسلم لهذا المنطق الاقصائي، يقولون إن لا سلطة دينية في الإسلام، فإذا لم يكن هذا تسلطاً دينياً على رقاب العباد فماذا يكون التسلط إذن؟!منذ سنوات كتب المفكر اللبناني كرم الحلو يقول: لقد كان القرن الماضي أيديولوجياً بامتياز، استنفد فيه الكاتب القومي والاشتراكي والعلماني كل طاقاته من دون تحقيق أي نهضة ذات شأن في الثقافة والمجتمع إن ما نشهده اليوم يمثل بجلاء عودة الأيديولوجيا بكل قوة للهيمنة على الفضاء المجتمعي والتحكم في مفاصل الدولة والاستحواذ على الشأن العام عبر جماعات تؤمن بالشمولية وتسعى لصبغ المجتمع والدولة بلون سياسي واحد، لقد كان دعاة المجتمع المدني في ما مضى ينادون بحياد الدولة الديني والمذهبي لتأسيس الدولة المدنية التي لا تفرق بين مواطنيها بحسب معتقداتهم لكننا اليوم في ظل حكم الإسلاميين لا ضمان حتى لـ"حياد المساجد" في العمل الانتخابي!إن على المسلمين الحرص على أن تظل بيوت الله تعالى صروحاً للعبادة فلا يجوز الزج بها في مهاترات سياسية تفسد على المصلين روحانيتهم وصفاءهم وأداءهم للشعائر، إن كل الأمم تصون دور عباداتها من الصراعات السياسية، فحري بالمسلمين أن يكونوا أكثر حرصاً على مساجدهم، يجب ضمان حياد المساجد وإبعادها عن الدعاية الانتخابية وفرض عقوبات على المخالفين لنزاهة الانتخابات والمسيئين لحرمة المساجد، المساجد لله تعالى وليست لحزب سياسي أو خطيب مؤدلج "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً".يجب علينا جميعاً السعي لحماية المساجد من هذا العبث السياسي، علينا صيانة مساجدنا من اللغو والخلافات السياسية والمذهبية لتبقى منابر للهداية والنور وجمع كلمة المسلمين، علينا جميعاً الوقوف في وجه أدلجة المساجد وتسييسها وتحويل منابرها إلى منابر للشقاق والتحزب والصراع والفتنة وإفساد ذات البين، أي عدالة في المنافسة الانتخابية إذا سمح لفصيل سياسي باحتكار منابر بيوت الله تعالى للدعاية لمرشحهم وتشويه خصمه؟!هل أتاكم نبأ الشيخ المحلاوي خطيب مسجد بالإسكندرية؟ أنه لم يكتف باستباحة المسجد لأهوائه الحزبية، إذ شن هجومه على الليبراليين ووصفهم بأعداء الدين بل فرض رأيه على المصليين بوجوب انتخاب مرشحه الإسلامي لأنه صاحب مشروع النهضة، وأضاف "وأنا عندما أقول لكم ذلك، فإني أقولها كما لو كنت أقول لكم إن الصلاة فرض "إنه يريد مصادرة حريات الناس في الاختيار، وحصل أن اعترض أحد المصلين على تكفير الليبراليين فثار الشيخ وغضب وأمر أتباعه بأن يلقوا به خارجاً!وعندما قيل له إن هناك قانوناً يحظر استغلال المساجد للدعوة للمرشحين، تبجح قائلاً: "نحن لا نعترف به، ومن حقنا أن نستخدم مساجدنا في أمور نراها تعود بالنفع على المسلمين"، إنه يرى نفسه المرجع الديني الأعلى الذي يرى ما فيه مصلحة المسلمين فهو فوق مؤسسات الدولة والأزهر الشريف!مشكلة هذه العقلية الإقصائية أنها مستبدة بطبيعتها اعتقاداً بأنها تملك الحقيقة كلها وأن الآخرين على بطلان، ترى من يستطيع محاسبة هذا الخطيب المتمرد على القانون وعلى تعليمات وزارة الأوقاف بعدم استغلال المساجد في الانتخاب؟ لا نملك إلا أن نحيي الأزهر الشريف وشيخه فضيلة الدكتور الطيب لإصداره بياناً يؤكد حياد الأزهر في الانتخابات، وينفي صدور أي فتوى بتحريم التصويت لأي مرشح لأن "هذه الأمور لا تدخل في الحل والحرمة، وإنما هي قضايا ونوازل تدور في الأساس حول مصلحة الوطن والمواطنين"، وهذا هو الموقف الإسلامي الصحيح الذي ينبغي أن يتخذه علماء الدين ودعاته كافة.*كاتب قطري