"دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب" هي الرواية التي حازت جائزة البوكر العربية لهذا العام 2012 للكاتب اللبناني الشاب النشيط "ربيع جابر"، وهي روايته التي تحمل رقم 17 من سلسلة رواياته، وهي كسابقاتها رواية تاريخية، بمعنى أنها استقت واقعة حصلت في التاريخ وأقامت عليها جسرا موازيا لها حتى تضيء الحدث الذي حصل في حينها من دون الدخول في التفاصيل الحقيقية وزمنها الذي لا يعلمه إلا من عايشها وكلهم باتوا في ذمة الغيب، لذا بنى المؤلف جسرا اسمه حنا يعقوب حتى ينقل عليه حكاية أو بالأحرى تفاصيل متخيلة لحكاية حقيقية سميت بدروز بلغراد.

Ad

انطلق ربيع جابر من تلك الواقعة أيام الدولة العثمانية حين قامت الاشتباكات الطائفية بين الدروز والمسيحيين المارونيين في جبل لبنان عام 1840 والتي حُكم فيها بالنفي عليهم إلى بلاد البلقان، إلى بلغراد حيث يسجنون فيها، ومن هذه الحكاية التاريخية الموثقة في الكتب، أخذ ربيع جابر بداية الخيط لروايته ونسج لها حكاية متخيلة مجاورة حتى تمكنه من تركيب تفاصيل روائية قد يكون فيها شيء من الواقع، وقد لا يكون إلا خيالا في رواية.

إذن لماذا هي رواية تاريخية طالما أن معظم تفاصيلها من بند الخيال؟

هي رواية تاريخية لأنها انطلقت من حادثة قد حدثت بالفعل وسجلها التاريخ، وأيضا ما بُني من خيال روائي هو بناء عائد لتصور ما حدث في تلك الفترة.

ولنعد الى الحكاية التي تتخيل تلك اللحظة التي سينقل بها الدروز إلى منفاهم ويتصادف فيها مرور بائع البيض المسيحي حنا يعقوب، وتلعب بها المفارقة العجيبة حين يؤخذ على غفلة ليكمل العدد الناقص من رقم المنفيين وهو 70 وليحل مكان أحد الأخوة الدروز الذي سمح الضابط لأبيه أن يأخذه من بين أخوته السبعة، وبالتالي يُكمل العدد بالمسيحي حنا يعقوب الذي يُرحل معهم على أنه أخوهم واسمه سليمان غفار عز الدين وهو مسلم.

ومن هنا تبدأ حكاية حنا يعقوب المرافق للدروز في رحلة العذاب والبؤس عبر 16 سنة من التنقل في سجون داخل سراديب وأقبية بائسة، وتسخير في خدمات بناء وشق طرق وتكسير حجارة وأشغال شاقة عبر سنوات من الشقاء بكل أشكاله وأنواعه، مسلسل من الآلام التي لا تتوقف ولا تنتهي حتى تصل إلى الصفحة الأخيرة من رواية هي واقع حكاية البؤساء التي تتكرر في كل المظالم العظيمة.

رواية للحزن بكل جدارة يتابعها القارئ ولا يصدق متى تنتهي، وهذا لا ينتقص منها فهي رواية تاريخية إنسانية تعكس سخرية المفارقات الحادة وأقدارها في الحياة التراجيدية التي تتكرر وتحدث على مدى التاريخ كله، وحتى المعاصر منه، وقد أجاد ربيع جابر في رسم والتقاط تفاصيل المعاناة الحياتية في داخل هذه الأقبية وخارجها وهي مقدرة غير عادية لديه تمكنه من تخيل تفاصيل التفاصيل، كل شاردة وواردة لا تغيب عنه، ولا تتمكن أو تتخيل أنها قادرة على الهروب من مصيدة مخيلته، ربيع جابر ملك التفاصيل التي أحيانا من كثرتها تصيب القارئ بالضجر.

ويبقى في النهاية تساؤل خاص بي: ما سر سحر الرواية المتميزة؟

فكون الرواية مكتوبة بشكل مكتمل في البنية واللغة والحدث والزمن والمكان لا يمنحها في رأي ذلك السحر الذي يفيض على القارئ بالمتعة والبهجة والإثارة والتساؤل وتحريك شيء ما داخل روح القارئ، ليس فقط معرفة أو اكتساب معلومة، هو أكثر من ذلك أو كل ذلك معا، الشعور بالمتعة والنشوة والاستثارة في يقظة روحية عاطفية عقلية وجسدية، كلها في خليط أو مزيج من رحيق سحري اسمه النص المتميز.

النص المتميز له خلطة سحرية تشمل كل متطلبات العمل الأدبي الفني المتوج بروح حميمية وحيوية نابضة من داخل النص ومن خارجه، وله نبض حي يملك قدرة مغناطيسية إيحائية تنقل الأحاسيس من النص وتبثها عبر القارئ لتشبكه ضمن شبكة النسيج الروائي أو التلفزيوني أو السينمائي، وان لم يستطع النص القيام بهذا الدور الحيوي يبق نصا مكتملا وباردا يتابع أحداثه القارئ فقط ليصل إلى نهايته.

هذه الرواية افتقدت إلى الحميمية فهي نقلت حياة المساجين وكوابيس عذاباتهم من الخارج من دون أن يشعر القارئ بما يعتمل في دواخلهم، رواية لا تترك خلفها أثراً.