أعمال السيادة وسيادة الدستور... نقيضان لا يجتمعان!
حكمت المحكمة الدستورية ببطلان مجلس 2012، وعودة مجلس 2009، لمخالفة إجراء مرسوم الحل القيود الإجرائية التي نص عليها الدستور، وقد رأت إدارة الفتوى والتشريع في دفاعها أن "طلب بطلان المرسوم الأميري بحل مجلس الأمة، والمرسوم الأميري بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس الأمة، لا تختص هذه المحكمة بنظره"، استناداً إلى قانون تنظيم القضاء رقم 23 لسنة 1990، الذي ينص على أنه "ليس للمحاكم أن تنظر في أعمال السيادة". إلا أن رد المحكمة جاء بأنه "لا يجوز أن يتخذ الحل الذي رخص به الدستور للحكومة استعماله، وحدد طبيعته وإجراءاته والغرض منه، ذريعة لإهدار أحكام الدستور ومخالفتها، فللدستور حرمة ونصوصه يجب أن تصان وأحكامه لابد أن تحترم".جاء الحكم مصدقاً لما حذر منه البعض، لاسيما الخبير الدستوري د. محمد المقاطع، من خطورة الفوضى السياسية والقانونية التي تتسبب فيها الإجراءات غير الدستورية، إلا أنه جاء مفاجئاً للكثير من القانونيين الذين ذهبوا إلى ما ذهبت إليه إدارة الفتوى والتشريع في رأيها، استناداً إلى "مواقف متعددة للقضاء، رجح اعتبارها من أعمال السيادة"، كما يقول الخبير الدستوري د. محمد الفيلي، الذي يرى أن القضاء قد "عدل عن توجه سابق"، وهو برأيه خطوة للأمام في تقليص نظرية أعمال السيادة (وإن كانت في الجانب الإجرائي)، الذي يعتبر بحد ذاته "مكسباً لمبدأ المشروعية على المدى البعيد".
بالفعل هو حكم تاريخي كما يردد اليوم في كل مكان، ليس لأنه حكم ببطلان مشروعية المجلس لأول مرة في تاريخ الكويت، بل لأنه برأيي يفتح المجال لطرح مشروعية مفهوم "أعمال السيادة"، الذي صمت المشرعون عنه صمت القبور، وهو مفهوم بدائي يكرس السلطوية، ولم يعد صالحاً للاستهلاك الآدمي في عصر سيادة الدستور ودولة القانون إلا في دولنا التي لاتزال تعيش في القرن التاسع عشر. وقد استخدمته الدول الاستبدادية الناشئة لإبعاد رقابة القضاء عن بعض أعمال السلطة التنفيذية، الأمر الذي شكل تهديداً خطيراً على حقوق وحريات الأفراد، لأنه حرم القضاء من حمايتهم وتعويضهم وحقهم في الطعن في "أعمال السيادة" للسلطة التنفيذية... وبتطور مفهوم دولة القانون اعتبرت نظرية "أعمال السيادة" انتهاكاً لمبدأ المشروعية الذي يخضع كل السلطات للرقابة القضائية... والمشروعية ركيزة أساسية في دولة القانون التي يتمتع فيها القضاء باستقلالية تامة تكون مهمته الأساسية صيانة الدستور ومطابقة القوانين مع نصوصه لإضفاء المشروعية عليها، لذا تصبح "أعمال السيادة" أعمالاً تفتقد المشروعية، وتسلب حق السلطة القضائية، وتنتهك مفهوم الفصل بين السلطات لعدم خضوعها لسيادة الدستور الذي يعلو على القوانين، فمنع القضاء من نظر "أعمال السيادة" خلل فاضح وانتهاك صارخ لنص دستوري واضح يكفل حق التقاضي للناس.ينتهك الدستور أمام أعين الأغلبية والأقلية والتيارات الوطنية التي لم تحرك ساكناً طوال هذه السنوات لتعديل أو حتى نقد مفهوم "أعمال السيادة" الذي أصبح عرفاً سياسياً مقدساً، بل إنها لطالما تذرعت به وتجاوزت عن انتهاكاته لسيادة الدستور... لا يهم إن كان بطلان مجلس 2012 أمراً قد دبر بليل، فلا دليل لدينا لإثباته أو نفيه، كما يقول د. الفيلي، ولا يهم إن اعتبر حكم المحكمة (التي قلصت في حكمها من مفهوم أعمال السيادة) "انقلاباً على الدستور" من منظور الأغلبية! لكن الأهم هو وعي الناخبين بمسؤولية الأغلبية، والتيارات الوطنية قبلها مشتركة مع الحكومة في مساهمتهم في هذه الفوضى بسبب سكوتهم عن انتهاكات مفهوم "أعمال السيادة" على سيادة الدستور، وانقلابهم أولاً على شعاراتهم المفلسة، وبدلاً من الجعجعة بشعارات حماية الدستور نهاراً والتذرع بحجة "أعمال السيادة" ليلاً عليهم أن يسعوا لإلغاء المادة الثانية من المرسوم بالقانون رقم 23 لسنة 1990 بشأن تنظيم القضاء الذي يمنع المحاكم من نظر أعمال السيادة... إن كانوا صادقين.