أدرك المخرج الشاب أمير رمسيس، وهو يصنع فيلمه التسجيلي «عن يهود مصر»، وهذا عنوانه، أن المسؤولية صعبة والقضية شائكة، وأنه كي ينجح في تجربته ويكسب قضيته وينجح في استقطاب كل من تقوده الظروف لمشاهدة فيلمه، عليه أن يُحشد أسلحته «العاطفية» لإقناع المشاهد بأن اليهود الذين اصطفاهم للحديث في الفيلم هم حفنة من الضحايا اضطروا بفعل الظرف التاريخي، والقصف السياسي، وحالة العداء التي تنامت ضدهم فجأة، إلى الرحيل عن مصر، التي ما زالت «في خاطرهم... وفي دمهم»!
كان أول ما فعله في هذا الصدد، أن أحسن انتقاء «الضحايا اليهود»، كما حرص على ألا يتسبب، عبر أي «كادر» أو جملة حوار عابرة، في إثارة حفيظة المتلقي «المتحفز»، أصلاً، لفكرة الفيلم ورؤيته وتوقيت طرحه، وهي المهمة التي نجح فيها بدرجة كبيرة، ليس فقط بفضل دقة «المونتاج» أو التصوير (جوني حكيم)، والمسحة اللونية التي اختارها للصورة وأضفت على زمن الفيلم عبقاً تاريخياً فريداً، بل لأنه اختار «الضحايا» من طبقة مُترفة يملك أبناؤها من الثقافة والوعي وسعة الأفق والتسامح، ما يجعلهم يكسبون الرهان على إقناع المصريين بأن الفارق كبير وشاسع بين «اليهودية» و{الصهيونية»، وأنهم أبناء مصر الذين لم ينسوها يوماً، بدليل أنهم لم يهجروها إلى إسرائيل، وما زال يشدهم الحنين إلى العودة إليها، لولا القوانين «الظالمة» التي أصدرها عبد الناصر، ونزعت عنهم الجنسية وحق الإقامة!من حق أمير رمسيس بالطبع أن يطرح القضية التي يشاء، وينحاز إلى وجهة النظر التي يريد، بشرط ألا يتجاوز في حق الآخرين، ويسيء إلى سمعتهم، مثلما فعل عندما أطلق العنان لضيوفه للحديث عن التضييق والخناق الذي مورس عليهم، في أعقاب صدور قرار التقسيم عام 1948، من جانب جماعة «الإخوان المسلمين»(حسن البنا) وحزب «مصر الفتاة» (أحمد حسين)، وبلغ ذروته، بواسطة «الضباط الأحرار» (عبد الناصر ورفاقه) عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لكن التجاوز بلغ مداه مع اتهامات الخيانة والتخوين التي طاولت «عبد الناصر»، وزعمت أن هنري كورييل، صاحب الدور المؤثر فى الحركة الشيوعية في مصر، علم بخطة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأرسل بها مع مندوب إلى صديقه د. ثروت عُكاشة، الذي سلمها بدوره إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لكنه تجاهلها، ولم يفطن إلى خطورة وجدية التحذير، وهي رواية ملفقة لا تختلف في سوء نيتها عن رواية رجل الأعمال اليهودي الذي أصر، كما جاء في الفيلم، على زيارة ضريح «عبد الناصر»، وهناك كتب على قبره: {أشكرك لأنك جعلت مني مليونيراً»!فعل المخرج هذا عبر شهادات حفنة من اليهود الذين استقروا في فرنسا، وأطنبوا في الحديث عن مصر، وأفضالها، وجميلها الذين يُحيط بأعناق أبائهم، وإشادتهم جميعاً، بالحرية التي نعموا بها طوال مدة إقامتهم في مصر،ولم يتمتع بها يهودي آخر في العالم بأسره، لكن وجهة نظر «الشرذمة»، التي غادرت مصر لدعم «الوطن الأم»، والإسهام في خروج حلم «أرض الميعاد» إلى الوجود، غابت عن الفيلم بدرجة أحدثت خللاً واضحاً أثر سلباً على توازن الفيلم، الذي استهدف مخرجه إقناع الجميع بأن «عبد الناصر»، وبطانته، زجوا بـ «اليهود الأبرياء» في السجون، لأنهم أحبوا مصر، ورفضوا مغادرتها، ثم لجأ إلى إصدار القرارات التي تقضي بسحب الجنسية منهم، وإلغاء حق الإقامة لهم، فكان «الخطأ التاريخي الفادح»، الذي ندفع ثمنه اليوم، حسب زعم «يهود مصر»...وأصحاب الفيلم (!)الأمر المؤكد أن فيلم «عن يهود مصر» صُنع بإحكام ودقة، و{خُبث» أيضاً، بداية من «الكاريزما» التي امتلكها ضيوفه وخفة الظل التي أضفت على الفيلم حميمية ودفئاً، وصولاً إلى ابتعاده عن الخطابة والمباشرة في التأكيد على التحول الجذري، الذي أصاب علاقة المصريين ليس فقط باليهود، وإنما علاقتهم وأجناس الأرض قاطبة، نتيجة تراجع روح التسامح والسماحة التي كانت تُميزهم لتحل محلها حالة من العدوانية والكراهية ورفض الآخر، ما سمح بتغلغل الأفكار الدينية المتطرفة، وسيطرة العنصرية القميئة على المجتمع المصري، وهي حقيقة، بل وجع وضع المخرج يديه عليه، لكنه لم يكن بحاجة إلى الإيحاء بأن النكسة الحضارية التي أصابت مصر هي نتيجة طبيعية لإقصاء اليهود المبدعين، ومعايرة المصريين بأنهم عرفوا الفن والثقافة والإبداع، على أيدي اليهود الذين شكلوا وجداننا مثل: يعقوب صنوع، توجو مزراحي، ليلى مراد، منير مراد، زكي مراد، نجوى سالم، شحاتة هارون ويوسف درويش (!) فالكاميرا تتجول في شوارع القاهرة لتقدم الدليل على أن كل ما حولنا «يهودي»، سواء البنايات الشاهقة التي شيدوها أو المتاجر الفارهة التي أسسوها، واستولت عليها الثورة و{الضباط الأحرار»، وواجبنا، بعد إقرار حق اليهود في العودة، أن نُقر بملكيتهم لها ونُعيدها إليهم، وهي الخطوة التالية فيما أظن!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: «يهود مصر» يثأرون من عبد الناصر!
15-10-2012