قالت لي ابنتي: أنت لا تعرفينني، أي بمعنى ماذا تعرفين عني؟ عن ما هو في داخلي؟ بصراحة توقفت كثيراً عند هذا التساؤل لأنه يطرح العلاقات ما بين أفراد الأسرة ومدى فهم بعضهم لبعض، فمهما كانت العلاقة بينهم شفافة صريحة واضحة إلا أنه لا بد أن يكون هناك نوع من التفاصيل التي تخبأ في الأعماق ولا تُذكر، لكن مادامت تربية الأبناء قد قامت على أسس ومبادئ أخلاقية قوية واضحة نزيهة شفافة، وعلى علاقة صداقة ومحبة غير مبنية على الخوف، فالمعرفة هنا لا تحتاج إلى الإلمام بجميع تفاصيل حياة الأبناء، خاصة غير المهمة والأساسية منها، فكونك تعرفهم وتعرف طريقة تفكيرهم وسلوكهم الذي رُبي على المبادئ والأخلاق وهو حجر الأساس المهم في التربية الذي سيحدد كل قراراتهم وردود أفعالهم المستقبلية تجاه كل الأحداث التي يتعرضون لها في حياتهم، خاصة عندما نغادر هذه الدنيا ولن نكون إلى جانبهم، فيجب أن يكونوا مدربين على استقلاليتهم، وعلى مواجهة الحياة ومشاكلها بمفردهم، لذا أوجدت مساحة لأولادي منذ صغرهم هي لهم وحدهم، إن أرادوا مشاركتي بها، فأنا جاهزة للاستماع إليهم بكل حب وتفهم، وإن أخفوها عني فأنا أحترم خصوصيتهم ولا أخاف منها لأني أعرف طريقة تفكيرهم المبني جوهرها على مبادئ الأخلاق.

Ad

كنت بالصدفة أشاهد المسلسل السوري «أرواح عارية» الذي ألفه وكتب السيناريو والحوار له فادي قوشقجي، وكان فيه مشهد يسأل فيه الأخ أخته ذات السؤال الذي سألتني ابنتي عنه، وكان رد الأخت على أخيها مقارباً لردي على ابنتي، فقد قالت له: «ما معنى أن تعرف بني آدم؟».

هو أنك تلم بالتفاصيل والأحداث التي تحصل في حياته، أم أنك تعرفه من خلال جوه؟

تعرف طباعه وأخلاقه من الداخل، ماذا يحب، وماذا يكره، موقفه من الأشياء والأحداث الأساسية في الدنيا. تحس فيه وقت زعله، وتتحمل غضبه، وتسامحه وقت غلطه، وتواسيه حينما يحزن، وتكون إلى جانبه حين يحتاج إليك.

ما كتبه فادي قوشقجي، أكد فيه ردي على كلام ابنتي، فمعرفة الشخص ليست الدخول والحشرية في معرفة تفاصيل ليست ذات أهمية في علاقتنا بمن نحب. الأهم في المعرفة هو أن نعرف جوهر من نحب وندرك طريقة ومسار تفكيره وردود أفعاله تجاه كل أحداث الدنيا، وهي الطريقة الوحيدة التي نعرف بها حقيقة من نحب.

علاقة الآباء والأبناء والأسرة بشكل عام طرأ عليها تغير كبير وتشابكت فيها مصادر التعليم والتوجيه والتقويم، ولم يعد الآباء وحدهم مصدراً للتربية والتعليم، فهناك المدرسة والشارع والإنترنت والانفتاح العالمي كله يقف ضد إرادة الآباء الذين يريدون رسم حياة أبنائهم بما يصممونه ويرغبونه.

ولعل علاقات المجتمع كلها بدأت تتعرض للتغيرات الكاسحة التي أخذت تهز المجتمعات العربية بوارد من المفاهيم في العلاقات المختلفة عن عادات وطباع مجتمعاتنا الإسلامية المتحفظة والمنغلقة على ذاتها، ومنها مثلاً موضوع المساكنة أي العيش في سكن واحد من دون زواج الذي بدأ ينتشر في بعض الدول العربية بشكل علني أو سري، مما رفع من تفضيل روح العزوبية على الارتباط في زواج.

هذه التغيرات في حاجة إلى فهمها واستيعابها ودرس مسبباتها، ولعل مسلسل «أرواح عارية» هو بداية لطرح ومواجهة مثل هذه التغيرات التي بدأت تنتشر بسرعة في مجتمعاتنا التي لن تستطيع الوقوف في وجه التيار العالمي المهاجم في شكل العلاقات المنتشرة في «الماسنجر» والتعري القائم عبره، وكل أشكال وأنواع الاتصالات العالمية الحديثة المخترقة لكل غرف النوم التي بات لها دور كبير في التلقي والاستيعاب والفهم، لذا بات من الضروري مراجعة القيم والأعراف السائدة في مجتمعاتنا العربية حتى نتفهم الكيفية التي تواجه بها هذه التغيرات خاصة في ما يخص الخيانات الزوجية المتبادلة، وهو ما جاء في الحوار الذي طرحه فادي قوشقجي في تحليل العلاقات الجنسية التي تتم قبل الزواج، وما إذا كان لابد من إعلام كل من طرفي العلاقة بها، وأن يقبل ماضي الإنسان الذي سيرتبط به قبل أن يقبله، لابد أن يعرفه، وصحبة المفاهيم والقيم لابد أن تتغير، كمفوم الأسرة التي لا تعرف من الدين إلا الحلال والحرام، والمجتمع الذي لا يعرف من العيب إلا السرير، ولا يعرف من الشرف إلا العذرية.