كان منشأ ميليس في عالم السياسة، كزعيم للجبهة الشعبية لتحرير تيجرايان، يتسم بميول ماركسية لينينية، ولكن بانتهاء الحرب الباردة انتهت أيضاً عقائده الدوغماتية، ومما ينسب إليه من فضل أن معدل الوفيات بين الأطفال انخفض بنسبة 40% في ظل حكمه؛ وأصبح اقتصاد إثيوبيا أكثر تنوعا، مع إدخال صناعات جديدة مثل السيارات، والمشروبات، والزهور.

Ad

كشفت وفاة رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي مؤخراً في بروكسل عن الأسباب وراء اختفائه الغامض لمدة شهرين من الحياة العامة، فقد نفت الحكومة الإثيوبية بشدة من قبل شائعات عن تدهور صحته إلى حد خطير بسبب سرطان الكبد، والآن بعد أن ثبتت صحة أسوأ الاحتمالات، فسوف يكون لزاماً على إثيوبيا، ومنطقة شرق إفريقيا بالكامل، أن تتعلم كيف تعيش من دون التأثير الداعم للاستقرار الذي فرضه دكتاتورها الدبلوماسي العظيم.

لا شك أن ميليس كان دكتاتوراً ودبلوماسيا، ولقد خضعت إثيوبيا لتحول هائل في ظل حكمه القوي منذ عام 1991، عندما وصلت جماعته من أقلية تيجرايان من شمال البلاد إلى السلطة مع الإطاحة بالحكم العسكري الشيوعي البغيض تحت زعامة منجستو هايلي مريام (الذي لا يزال يتمتع بتقاعد مريح في زيمبابوي في ضيافة روبرت موغابي).

إن ميليس (اسمه الحركي في الثورة)، الذي خدم في البداية كرئيس لأول حكومة بعد الحكم العسكري، ثم بعد ذلك كرئيس لوزراء إثيوبيا من عام 1995 حتى وفاته، أشرف على نمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 7.7% في الأعوام الأخيرة. والواقع أن هذا الأداء الاقتصادي القوي مثير لبعض الدهشة، نظراً لسياسة التدخل التي انتهجها حزبه، ولكن ميليس أظهر نفسه باعتباره رجلاً عملياً بارعاً في جذب الاستثمارات- وخاصة من الصين- لدفع عجلة النمو.

كان منشأ ميليس في عالم السياسة، كزعيم للجبهة الشعبية لتحرير تيجرايان، يتسم بميول ماركسية لينينية، ولكن بانتهاء الحرب الباردة انتهت أيضاً عقائده الدوغماتية، ومما ينسب إليه من فضل أن معدل الوفيات بين الأطفال انخفض بنسبة 40% في ظل حكمه؛ وأصبح اقتصاد إثيوبيا أكثر تنوعا، مع إدخال صناعات جديدة مثل السيارات، والمشروبات، والزهور؛ وانطلقت مشاريع كبرى في مجال البنية الأساسية، بما في ذلك أكبر سد كهرومائي في إفريقيا. والواقع أن إثيوبيا، التي كانت في نظر العالم دولة مختلة مرتبطة فقط بالمجاعة والجفاف، أصبحت واحدة من أضخم الاقتصادات في إفريقيا، ومن دون الاستفادة من ذهب أو نفط.

ولعل الأمر الأكثر أهمية من إنجازات ميليس على المستوى المحلي كان سجله الدبلوماسي، فقد كان حليفاً لا غنى عنه للغرب في مكافحة الإرهاب الإسلامي، ولقد توج هذا التحالف بالعملية العسكرية التي نفذتها إثيوبيا في الصومال المجاورة في عام 2006. وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، عمل ميليس على تنسيق الجهود مع كينيا لتوجيه ضربات محدودة ضد ميليشيا حركة الشباب، التي شنت حرباً بلا هوادة لتحويل الصومال إلى دولة دينية إسلامية أصولية.

وفي الوقت نفسه تودد ميليس إلى الصين باعتبارها مستثمراً وحامياً له ضد انتقاد الغرب لسجله في مجال حقوق الإنسان، ولكنه على الرغم من هذا مد يد الصداقة إلى إقليم أرض الصومال الانفصالي، وذهب في هذا إلى أبعد حد باستثناء الاعتراف الرسمي بهذا الشعاع من الأمل الديمقراطي في منطقة القرن الإفريقي. وسوف يُفتَقَد ميليس كثيراً في هرجيسا، حيث كان يخطط لتمديد خط لأنابيب الغاز بتمويل صيني عبر منطقة أرض الصومال من أوغادين إلى الساحل.

والأمر الأكثر أهمية هو أن ميليس وضع أديس أبابا على الخريطة باعتبارها منشأ الاتحاد الإفريقي، وبوصفها عاصمة يمكن على أرضها مناقشة أسوأ مشاكل إفريقيا بطريقة عملية وغير مثقلة بالأحقاد الاستعمارية، كما أصبح ميليس ذاته لاعباً دبلوماسياً رئيسيا، وبخاصة فيما يتصل بسياسة تغير المناخ، ومؤخراً كان نشطاً في الوساطة في النزاعات الحدودية وحول الموارد الطبيعية بين السودان ودولة جنوب السودان (الغنية بالنفط) والمستقلة حديثا. وسوف يُذكَر لقبوله انفصال أرتيريا المؤلم عام 1993، بدلاً من الدخول في حرب أهلية مطولة، ولجهوده في التوصل إلى اتفاق مع مصر بشأن استخدام مياه النيل الأزرق.

أما وصمة العار الكبيرة التي سوف تظل عالقة بسجل ميليس فهي عدم تسامحه مع المعارضة، ولا شك أن سجله في مجال حقوق الإنسان كان أفضل كثيراً من حكم العسكر السابق، فقد سمح على سبيل المثال للصحافة الخاصة بالازدهار، وفي عام 2000 أصبح أول زعيم إثيوبي يعقد انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب، فضلاً عن ذلك، ومقارنة بأرتيريا المجاورة في عهد الرئيس أسياس أفورقي أو عمر البشير في السودان، فإن نظامه لم يكن بأي حال الأسوأ في المنطقة، ولم تتوافر أدلة كثيرة تشير إلى إثراء شخصي أو فساد واسع النطاق.

ومع ذلك، ففي أعقاب الانتخابات البرلمانية المتنازع عليها بعنف في عام 2005، والتي شارك فيها أكثر من ثلاثين حزبا، أعلن ميليس صراحة احتقاره للتعددية الديمقراطية وحرية الصحافة، وسجن العديد من الصحافيين في الأعوام الأخيرة. وفي الوقت نفسه فرض رقابة مركزية متزايدة الصرامة على بلاده التي تتسم بالتنوع العرقي واللغوي.

ورغم أن إثيوبيا تحكمها «فيدرالية عرقية» اسميا، فإن ميليس كان يسارع إلى تجاهل الدستور عندما تهدد هذه الفيدرالية بالانفصال، كما حدث في أوروميا أو أوغادين. ورغم أنه عمل على تعزيز الحرية الدينية والتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين، فإن سجل حقوق الإنسان في إثيوبيا ظل سيئاً للغاية. على سبيل المثال، قامت جماعات مثل فريدوم هاوس وهيومان رايتس ووتش بتوثيق القمع الرسمي الواسع النطاق الذي تعرض له أهل منطقة أوروميا.

ورغم كل هذا فإن ميليس لا بديل له، فلا يضاهيه أحد كزعيم إفريقي على المستوى الفكري (فقد ترك الدراسة بكلية الطب لكي يتزعم الثورة ضد حكم العسكر، ولكنه علم نفسه اللغة الإنكليزية فأتقنها بطلاقة وحصل على شهادات من جامعات أوروبية بالمراسلة)، ولا يضاهيه أحد على المستوى السياسي في الداخل، مع عدم وجود خليفة واضح يتولى المنصب من بعده. وفي منطقة القرن الإفريقي لا يوجد زعيم بنفس مكانته وقادر على ضمان الاستقرار والحكم القوي الذي تحتاج إليه المنطقة بشدة.

سوف يتولى هيل ماريام ديسالين، وزير خارجية ميليس، رئاسة حكومة إثيوبيا، لكن الأمر لن يخلو من قدر كبير من المخاوف في الغرب إزاء الخطر المتمثل بخواء السلطة أو اندلاع الصراعات في دولة مهمة على الصعيد الجيوسياسي ولكنها منقسمة، وفي وقت حيث كان من المفترض أن تخضع الصومال المجاورة لعملية انتقال إلى برلمان جديد وحكومة منتخبة.

لقد ترك ميليس للمعجبين والمنتقدين على السواء تركة سياسية قوية، وسوف يتذكره الناس بوصفه زعيماً إفريقياً ذا أهمية تاريخية كبرى: فقد كان صاحب رؤية، ومستبداً، ولا يمكن الاستغناء عنه.

* تشارلز تانوك | Charles Tannock ، منسق الشؤون الخارجية لتكتل المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»