كل شيء ممكن أن تتم المناورة السياسية حوله، والقبول والعطاء بشأنه، وخلق التسويات والترضيات حياله، إلا العدل الذي يشكل أساس الحكم، والمنوط تحقيقه بسلطة القضاء عبر حماية استقلاليتها وصون خصوصياتها، ومراجعة ما يحدث في الأسابيع الأخيرة بدقة من مقترحات نيابية بالجملة بشأن تنظيم القضاء واستقلاليته حسب عناوين هذه المقترحات بقوانين، تثبت أن في ظاهرها الرحمة والإصلاح، وفي باطنها التحكم في السلطة القضائية، ووضعها تحت رحمة سلطة أخرى بقوانين كثير منها ملغوم، وتمثل اختراقاً واسعاً لصلاحيات القضاء من المشرعين في السلطة التشريعية المنتشين بقدرتهم على الإمساك بكل مفاصل الدولة والهيمنة عليها!

Ad

المفزع من تناول ملف القضاء بكثافة نيابياً أن من يتداوله لديه قضايا خسرها أمامه أو مقبل على منازعات قضائية مصيرية يخشى أن يخسرها، والبعض الآخر من هؤلاء لديه ثارات من القضاء لأنه لم يعطه مراده، وآخرين يعتقدون أن هيمنتهم النهائية على الدولة ستتحقق بتدجين القضاء والسيطرة عليه، ولذلك نرى من يحقر أحكاماً قضائية ولا يعترف بها، في ممارسة استباقية للنيل من هيبة القضاء، وتمهيداً للخطوات التشريعية المقبلة للعبث بشكل كبير بالقضاء وكل ما يتعلق به من تعيينات ومناصب وشؤون إدارية خاصة به، وهي الإجراءات التي إن تمت فستكون الضربة القاضية لدولة المؤسسات وحصن الحريات وحقوق البشر في هذا البلد، فكم حمت السلطة القضائية في العديد من الدول الديمقراطية العريقة النظم السياسية والاجتماعية وحقوق الأفراد، عندما جار أو تخاذل السياسيون عن ذلك بسبب حساباتهم الانتخابية والمصلحية.

البعض سيعترض على ما أسلفنا، ويقول إن الشعب اختار الأغلبية البرلمانية التي ستتعامل مع قوانين تنظيم القضاء، ولكن -ومع الفارق- أيضاً الأغلبية أتت بأسوأ القيادات في تاريخ البشرية، مثل أدولف هتلر الألماني، والمتطرف النمساوي هيذر، وصفقت الأغلبية كذلك لموسليني الإيطالي، ولذلك تعلمت الشعوب أن هناك أصولاً وقواعد للعبة الديمقراطية تحميها السلطة القضائية وتشذب شذوذها، ونحن في الكويت في حالة طغيان غير مسبوق من أغلبية برلمانية على كل السلطات بمرجعية أصولية-قبلية متطرفة لو تركت على اندفاعها وتغولها على بقية مؤسسات الدولة فإن مصيرنا جميعاً وحرياتنا وحقوقنا ستصبح في مهب الريح، خاصة بعد الاستسلام الكامل للسلطة التنفيذية (الحكومة) أمامها.

الخلاصة أننا اليوم نعيش فترة حرجة نضع فيها أيدينا على قلوبنا من اختراق حصننا الأخير لدولة المؤسسات والدولة المدنية الحديثة، والمتمثل في السلطة القضائية، في أجواء العملية السياسية المريضة التي تعيشها البلد، بكل آفاتها من التطرف والانحياز الفئوي والتوتر الاجتماعي والتناحر الطائفي، وهي عوامل كلها لا تساعد على أن يتم تداول ملف القضاء بروية واتزان، خاصة أن عملية تطوير المرفق القضائي تتطلب حواراً وطنياً، كما تفعل المملكة المغربية حالياً قبل أن تباشر في مراجعة التشريعات وتطويرها، لذا فإن تفحص ما يجري في مجلس الأمة بشأن القضاء يستنتج منه أنه يستهدف عدة مقاصد، منها رسائل ترهيب للقضاء في قضايا سيتم إصدار الأحكام بشأنها قريباً، ومقصد آخر باستفراد النواب بالقرار في الدولة عبر سلب المحكمة الدستورية من صلاحياتها، وهدف آخر حزبي لتيار أصولي للزحف على السلطة بعد تهميش القضاء، وأخيراً رغبة انتقامية لدى نواب آخرين من القضاء لعدم قدرتهم على الالتحاق به أو إصداره لأحكام ضدهم، وفي جميع الأحوال والمقاصد فإن النيل من القضاء واستقلاله، والهيمنة عليه سيكون وبصراحة شديدة أهم علامات سقوط الدولة، والبداية الفعلية لـ"صوملة" الكويت، لذلك نتوجه للسلطة بأن تكون حازمة في دفاعها عن القضاء حتى لو استدعى ذلك إقفال قاعة عبدالله السالم، لأنه أبرك من اختراق القضاء وتدميره، وتحول البلد الى غابة كبيرة يعبث في أحراشها بعض "طرزانات" السياسة وعشاق قنص الحكم والزعامة!