حين يصبح هذا المقال تحت نظر القارئ الكريم، قد تكون مصر حصلت على أول رئيس لها بعد ثورة 25 يناير، لكن هذا الرئيس للأسف الشديد لن يكون متمتعاً بالدعم اللازم، ولا القبول الكافي، ولا المكانة المفترضة، لكي يعبر عن الثورة، وبالتالي عن الدولة التي يجب أن تنتج عنها، وتحمل ملامحها، وتحقق أهدافها.

Ad

حين اندلعت ثورة 25 يناير قبل نحو 17 شهراً، كانت تهدف إلى إطاحة نظام مبارك، بكل ما يمثله، وبكل من ينتمي إليه، لأنها أيقنت أن هذا النظام فشل في تحقيق المطالب الوطنية من جهة، وعجز عن طرح نفسه كمشروع مستقبلي من جهة أخرى.

وإضافة إلى ذلك؛ فإن تلك الثورة، ورغم مشاركة بعض الجماعات السياسية ذات الإسناد الديني في معظم مراحلها، ورغم ما قدمه عدد من تلك الجماعات للحركة الوطنية المصرية من تضحيات على مدى عقود، لم تطرح أي مطالب تتصل بطبيعة دور الدين في المجتمع والسياسة، بل إنها، على العكس من ذلك تماماً، تشددت في التمسك بالوحدة الوطنية من جهة، ونزعت نحو الحداثة والدولة المدنية بوضوح من جهة أخرى.

لهذين السببين يمكن القول إن وصول شفيق أو مرسي إلى قصر الرئاسة في "مصر الجديدة" يعد انتكاسة حقيقية للثورة؛ لأن أولهما ينتمي بوضوح إلى نظام مبارك، وربما يجسد أحد روافعه الصلبة، خصوصاً لخلفيته العسكرية، وعلاقته المفترضة بالمجلس العسكري الذي اجتهد في الحفاظ على أركان دولة مبارك بقدر الإمكان، في ما يمثل ثانيهما "الإسلام السياسي" بامتياز، بوصفه مرشح جماعة "الإخوان المسلمين" للمنصب؛ وهو أمر لم يكن أي من الثوار يتخيله، حتى في أشد كوابيسه إظلاماً، يوم أن أُطيح مبارك من منصبه، في 11 فبراير من العام الماضي.

إذا أُضيفت الأصوات التي حصل عليها المرشح الثوري حمدين صباحي إلى تلك التي حصدها عبدالمنعم أبوالفتوح، الذي اُعتبر مرشحاً ثورياً بعد انشقاقه عن جماعة "الإخوان" وتبنيه خطاباً أكثر ميلاً إلى التيار الثوري الجامع، في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، كانت أكثر من تلك التي حصل عليها مرسي أو شفيق، والتي أهلتهما لخوض جولة المنافسة على المنصب الرئاسي. يتضح من هذا الأمر أن الثورة كان بإمكانها أن تأخذ مرشحاً إلى القصر الرئاسي، في حال نجحت في الاصطفاف وراء مرشح واحد؛ وهو أمر لم يتحقق بالطبع، بسبب قصر النظر والأنانية السياسية التي منعت حمدين وأبوالفتوح، ومعهما عدد آخر من المرشحين الثوريين، من التحالف والتكتل خلف مرشح واحد. وبالتالي، فقد دخل هؤلاء جميعاً في منافسة شرسة فرقت الأصوات الثورية بينهم، وسمحت لمرشحي "الإخوان" و"نظام مبارك" بالوصول إلى الجولة النهائية.

لم ينجح مرسي في تصدر قائمة المرشحين في الجولة الأولى لأنه أكثر من يعبر عن وجه مصر في أعقاب ثورة 25 يناير، كما لم يأت شفيق ثانياً بما مكّنه من خوض جولة الإعادة لأنه يتمتع بدعم قطاع كبير بين المصريين؛ لكن الاثنين وصلا إلى هذا الموقف لأنهما مدعومان من أهم وأكبر ماكينتين انتخابيتين في البلاد.

فقد دعمت مرسي ماكينة عريقة وضخمة ونافذة، هي ماكينة جماعة "الإخوان المسلمين"، في وقت تلقى شفيق الدعم من ماكينة متمرسة ومتغلغلة في أعماق البلاد هي ماكينة "الحزب الوطني" المنحل، ومن المرجح، وفق تقارير وإفادات عديدة، أن كليهما استخدم المال السياسي والرشا الانتخابية وأحياناً التزوير بأشكال مختلفة.

يعكس حصول حمدين وأبوالفتوح مجتمعين، من دون تزوير ورشا انتخابية، على عدد من الأصوات يفوق ما حصل عليه كل من شفيق ومرسي في الجولة الأولى منفرداً، أن الثورة باستطاعتها حشد أغلبية إن توحدت وأرادت، كما يؤكد أنها لم تنجح في التحقق والاكتمال لتأخذ مطالبها وشعاراتها وأهدافها إلى مرحلة "الدولة".

ويوضح انقسام أصوات الناخبين بين شفيق ومرسي بفارق بسيط للغاية في الجولة الثانية أن أياً منهما لا يتمتع بأغلبية واسعة أو مريحة، وبالتالي لا يحظى باعتبار سياسي يمكنه من الجلوس بأريحية وثقة في مقعد الرئاسة.

يجب ألا نقلل أبداً من التاريخ الذاتي لكل من مرسي وشفيق؛ إذ سيجد أنصارهما الكثير من الإنجازات التي يمكن أن تُنسب إلى كل منهما، كما يجب ألا نهون أبداً من الدعم الكبير الذي قد يلقاه أي منهما حين يصبح رئيساً سواء من جانب جماعة "الإخوان المسلمين" في حالة الأول، أو من جانب "الدولة العميقة" و"الحزب الوطني" المنحل في حالة الثاني، ومع ذلك، يمكن التأكيد أن حجم الممانعة التي سيلقاها كل منهما سيضع قيداً صعباً على رئاسته، وسيعوقه عن إنفاذ أجندته.

سيواجه شفيق، في حال وصوله إلى المنصب الرئاسي، مقاومة بالغة من تيار الإسلام السياسي مجتمعاً، باعتباره "عدواً تقليدياً" للإسلاميين، خصوصاً أنه بنى حملته الدعائية على استهداف "الإخوان"، كما سيواجه ممانعة أكبر من التيار الثوري، باعتباره "تلميذ مبارك"، ومحاولة لـ"إعادة إنتاج النظام البائد"، والأهم من ذلك لكونه "أحد المسؤولين عن قتل الثوار".

وسيواجه مرسي، في حال وصوله إلى المنصب الرئاسي، مقاومة بالغة من "الدولة العميقة"، وفي القلب منها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى، التي ستعتبر وجوده في هذا المنصب "تهديداً مباشراً" لها، وللمصالح العليا للبلاد كما تشخصها، كما سيواجه ممانعة كبيرة من تيارات علمانية وليبرالية ومجتمع مدني وأحزاب تقليدية وبعض شرائح الجمهور التي لا تريد أن ترى مصر تتحول إلى "دولة دينية". لذا، فإن وصول أي منهما إلى موقع الرئيس لن يعني مباشرة أنه سيتمتع بمكانة الرئيس المفترضة في الدولة المصرية العريقة، إضافة إلى ما يمكن أن يطوله من تقليص في صلاحياته حسب ما يستقر عليه الدستور الجديد وشكل النظام المنتظر، وكلها عوامل ستجعل منه "نصف رئيس" لا أكثر.

لقد نجحت ثورة يناير في إطاحة مبارك وإنهاء مشروع التوريث وهدم جدار الخوف الذي حُبست فيه الشخصية المصرية لقرون طويلة، كما أخذت الدولة المصرية إلى مشروع تداول سلطة حقيقي، لكنها عجزت عن تحقيق شعاراتها ومطالبها الأساسية، كما أخفقت في أن تحمل أحد أبنائها إلى موقع الرئاسة، الذي تنازع عليه "مباركي" و"إخواني"، في تكرار لصيغة الصراع الذي امتد طيلة ثلاثة عقود خلت، لذا فإنها لم تتعد أن تكون "نصف ثورة".

"نصف رئيس" بعد "نصف ثورة"... هذا هو ما جرى في مصر، التي تحتاج ثورة كاملة، وتستحق رئيساً كاملاً.

* كاتب مصري