اللحظة التاريخية والأزمة السياسية
هناك فارق كبير بين اللحظة التاريخية لأي مجتمع وأزماته السياسية الاعتيادية حتى الشديدة منها. ففي الغالب يتم الخلط بين هذه وتلك، وعلى أثر ذلك تضيع اللحظة التاريخية وتفقد قيمتها في التحولات الاجتماعية التي تتجاوز أهميتها الحدث السياسي الآني. انتخابات الرئاسة المصرية الأخيرة هي من نوع اللحظات التاريخية تلك، بغض النظر إن كنا نتفق مع من فاز أو نختلف معه. اللحظات التاريخية تأخذ وقتاً أطول لتتحقق نتائجها ولنري آثارها. تلك الانتخابات تحدث لأول مرة بهذه المواصفات في التاريخ المصري قاطبة، والأهم ممن فاز أو خسر الاتفاق على أن الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل للحكم، وأن حكم الأقلية، أياً كان شكلها ولونها وطعمها ورائحتها، ومهما كانت مرجعيتها عسكرية أو فكرية، يسارية أو يمينية، دينية أو غير ذلك، لن يتمكن من زرع الاستقرار والتوازن في المجتمع، ولن يستطيع تثبيت احترام كرامة الإنسان.
وعلى هذا الأساس فإن اللحظة التاريخية تتطلب سلوكاً سياسياً بنفس المستوى التاريخي، يسعى بالدرجة الأولى إلى تأكيد وترسيخ القيم الديمقراطية وتعزيز الثقافة السياسية التعددية والمساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص.ولعل مع القراءة الفاحصة للحظة التاريخية نرى أن ٥١% فقط ممن يحق لهم التصويت قاموا بالذهاب فعلاً إلى صناديق الاقتراع، أي أن حوالي نصف الشعب المصري لم يشارك، وأن ٥١% فقط من ذلك النصف صوت للرئيس المنتخب، أي ربع الذين يحق لهم التصويت فقط، وأن قرابة الـ٩٠٠ ألف كانت أوراقاً باطلة. وهذا يعني أن اللحظة التاريخية قد اكتملت أركانها من حيث المبدأ ومن حيث التفاصيل، ففي المبدأ تم وضع المجتمع المصري على بداية السكة لكيفية إدارة شؤون المجتمع، أما في التفاصيل فقد اتضح لنا عدم مشاركة النصف، ودعم النصف الآخر فقط للرئيس المنتخب، ما يعني أن هناك انقساماً في المجتمع حول الرؤى والمستقبل والخيارات، وأن التجربة الجديدة لكي تنجح وتستمر وتصمد، فإن على القائمين عليها أن يدركوا أنه لا سبيل لذلك بدون التحسس والتعامل مع تلك الانقسامات بمنطق التعددية والمؤسسية، لا منطق الهيمنة وغلبة الفكر الواحد الذي ثبت فشله وتراجعه. الجدل الدائر في مصر بمجمله جدل صحي بناء، نستثني منه تلك الآراء والأفعال التي تدفع باتجاه إعادة عقارب الساعة إلى عهد ما قبل الثورة، إن أدركت النخبة السياسية، أغلبها وأهمها بالطبع، ضرورة تضافر الجهود لتحويل تلك اللحظة التاريخية إلى حالة ثقافية، فالمجتمع موعود مع تغيرات إيجابية، أما إن انغمست تلك النخب إخواناً كانوا أو عسكراً أو غير ذلك في أزمات سياسية طاحنة، خارجة عن نطاق تثبيت قيم الحرية والتعددية وكرامة الإنسان، فإن اللحظة التاريخية قد تتراجع لتنكمش فتصبح مجرد خطوة في طريق ثوري لم تتضح معالمه بعد.