من هدم الكنائس إلى حد الحرابة

نشر في 18-03-2012 | 00:01
آخر تحديث 18-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز لقد صعد الإسلاميون صعوداً عزيزاً في الانتخابات كافة التي جرت في المنطقة في أعقاب ما عُرف بثورات "الربيع العربي"، ولا شك أنهم سيواصلون الصعود في أي انتخابات نزيهة ستجرى في الدول العربية خلال الفترة القصيرة الراهنة.

ثمة أسباب عديدة وراء صعود الإسلاميين؛ بعضها يتصل بالطبع بأدائهم السياسي والاجتماعي على مدى العقود الفائتة في مقابل خواء المنافسين، وبعضها يتعلق بالطريقة القمعية التي تمت معاملتهم بها من قبل السلطات الفاسدة والمستبدة، وأغلبها ينبع من عواطف الناس الدينية وتعلقهم الكبير بكل ما يقربهم من التوسل بالإيمان، حتى لو كان هذا الإيمان لا يظهر واضحاً في سلوكهم الحياتي.

لكن الانطباعات السلبية بدأت تتكون عن أداء الإسلاميين في البرلمانات، بعدما هيمنوا على أكثر من برلمان في المنطقة، ويبدو أن تلك الانطباعات ستتكرس، لأنهم ربما يتصرفون بطريقة متشابهة، رغم اختلاف الظروف في كل بلد من البلدان التي باتوا يتمتعون بالأغلبية البرلمانية فيها.

فإذا تحدثنا عن إسلاميي الكويت مقارنة بنظرائهم في مصر، لوجدنا تشابهاً كبيراً في المقاربات الصادرة عن الفريقين؛ ليس فقط في طريقة الأداء، ولكن أيضاً في نوعية المطالب والقضايا التي تتصدر أولوياتهم.

فلم تكد ثورة يناير تنجز هدفها الأول في مصر بإطاحة مبارك وعدد من أركان نظامه البارزين، حتى برز على السطح إشكال يتعلق بـ"المادة الثانية" من دستور 1971 الساقط.

تنص المادة الثانية من الدستور المصري الملغى على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهي مادة أضافها الرئيس الأسبق أنور السادات قبيل نهاية ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، ليسترضي الإسلاميين ويمرر معها تعديلاً يسمح له بالترشح لمدد رئاسية من دون حد أقصى. لم تكن هناك مطالبات جدية بتغيير المادة الثانية من الدستور قبل ثورة يناير، وحينما قامت الثورة كان شعارها كما يعرف الجميع "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، وكانت أهدافها تنطلق من الشعار نفسه، وتستهدف إعادة بناء البلد بعد الهدر والفساد اللذين ميزا عهد الرئيس السابق حسني مبارك.

وحين أجرى المجلس العسكري، الذي أدار شؤون البلاد في أعقاب ذهاب مبارك، استفتاء على تعديلات أُدخلت على دستور 1971، سعت القوى المدنية والليبرالية إلى رفض التعديلات بدعوى الرغبة في صياغة دستور جديد يمثل عقداً اجتماعياً لائقاً بفترة ما بعد ثورة يناير، إلا أن الإسلاميين وافقوا على التعديلات بشدة، واستخدموا المساجد المنتشرة في أعماق البلاد للحض على التصويت بـ"نعم"، بل وذهبوا إلى القول بأن ("لا" تعني دخول النار و"نعم" تعني دخول الجنة).

وقد تحقق للإسلاميين ما أرادوا، وصوتت الأغلبية بقبول التعديلات، متأثرة بالدعاية السوداء التي صورت أن "المسيحيين والعلمانيين يريدون رفض التعديلات لصياغة دستور جديد لا يتضمن المادة الثانية".

على أي حال، فقد فاجأ المجلس العسكري الجميع، وأسقط التعديلات، وأصدر إعلانا دستورياً، وهيأ الطريق لانتخاب لجنة تأسيسية تصوغ دستوراً جديداً، لتظهر مطالب ملحة من قبل قطاع من الإسلاميين لإجراء تعديل على المادة الثانية، يتضمن وضع كلمة "أحكام" بدلاً من "مبادئ"، أي لتصبح "أحكام الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع"، وليس مجرد مبادئها. لم تكن المسألة إذن تتعلق بالإبقاء على نص المادة الثانية على ما هي عليه "دفاعاً عن هوية الدولة المصرية أو دفاعاً عن الإسلام"، ولكنها تتعلق بتحقيق مكاسب سياسية مطردة في طريق طويلة لا يبدو أنها ستنتهي، وصولاً إلى "أسلمة الدولة" بالشكل الذي يفهمه قطاع معين من الإسلاميين.

لا يختلف الأمر كثيراً عما يحدث بالكويت إزاء المادة الثانية ذاتها؛ فتلك المادة تنص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وهناك من يريد تعديلها لتكون "المصدر الرئيسي للتشريع"، بما ينطوي عليه ذلك لاحقاً من أسلمة بقية القوانين عبر حصر خيارات المشرع في المصدر الإسلامي كما يفهمه الإسلاميون.

هناك إذن رغبة ملحة من قبل قطاعات بين الإسلاميين في البلدين لتحقيق مكاسب في الدستور، تتصل بتغليب وجهات نظرهم إزاء عملية التشريع، بما يفتح الباب لعملية أسلمة واسعة للقوانين.

الأمر ذاته يتكرر بوضوح في ليبيا وتونس الخارجتين من ثورتين نجحتا في إطاحة نظامين علمانيين، حيث شهد البلدان حديثاً متكرراً ومطالبات تتعلق بمحاولات لصبغ الدستور بصبغة أكثر إسلامية.

الإشكال الكبير لا يظهر فقط في انصراف المجال العام في الدول التي شهدت صعوداً للإسلاميين بقضايا يمكن أن تكون شكلية أو محسومة سلفاً، بالنظر إلى أن هوية الدولة في مصر أو الكويت غير متنازع عليها، والإسلام في البلدين يخدم ويصان ويوضع في أعلى المراتب، ولكن الإشكال يظهر أيضاً في انعكاسات مثل تلك المطالبات على عملية صنع السياسات العامة التي تجري أحياناً عبر البرلمان.

لذلك، فلم يكن مستغرباً مثلاً أن يشهد البرلمان المصري بعد ثورة يناير مطالبات بـ"تغيير القسم الدستوري لعضو مجلس الشعب عبر إضافة عبارة بما لا يخالف الشريعة"، أو رفع الآذان من قبل أحد الأعضاء أثناء الجلسة، أو مطالبة عضو بـ"إلغاء الفيس بوك"، وإلحاح آخر على "عدم تعليم تلاميذ المدارس اللغة الإنكليزية".

الأمور تصل إلى حد التطابق بين النواب المتشابهين في مصر والكويت، والذين يريد كل فريق منهم تكريس ما يعتبره "أسلمة الدولة" عبر مطالبات مثيرة للجدل ولا تندرج ضمن أولويات المواطنين الذين انتخبوهم، ولذلك فلم يكن مستغرباً أن يطالب نائب كويتي بـ"هدم الكنائس"، في موازاة مطالبة نائب مصري بـ"تطبيق حد الحرابة".

تقدم حزب إسلامي بمشروع لتطوير التعليم في مصر في مرحلة ما بعد ثورة يناير، وهي بادرة جيدة لأن التعليم العام في هذا البلد بلغ حداً مآساوياً من الاختلال والرداءة، لكن المشروع لم يكن يتضمن أي مقاربة جادة، وقد ركزت بنوده كافة على مسائل من نوع "الفصل بين المعلمين والمعلمات في غرف المدرسين"، و"عدم إرسال أخصائيات اجتماعيات لمدارس البنين"، و"إضافة درجات التربية الدينية إلى المجموع الكلي للتلاميذ".

إنها أزمة كبيرة، ليس لأن الإسلاميين سيهيمنون على البرلمانات في أكثر من بلد عربي بالطبع، ولكن لأن بعضهم لا سقف لما يريد تحقيقه من غايات شكلية وجالبة للصدام، ولأن أغلبهم لا يريدون تحقيق أهداف واقعية وطموحة تتصل بتحسين أحوال الناس وتلبية طلباتهم بقدر ما تتعلق بأنماط حياة لا تعكس فهماً لائقاً بدين لم يتناقض أبداً مع الحداثة، ولم يحمل للبشر سوى مفاهيم تحقق العدالة والخير والسعادة والأمل.

* كاتب مصري

back to top