نعلم أن سماءك تلبدت بالغبار وأن ترابك هاج والأعين التي كانت تبصر ملأها القذى وانعدمت فيها الرؤية، فلم تعد تدرك الفرق بين بداية الطريق ونهايته. نعلم أنك أصبت بحالة من العجز تزداد سوءا يوما بعد يوم ويفشل علاجها حين يتضاءل عدد الحكماء الذين يعرفون طريق شفائها. ونعلم أن التفاؤل الذي يصيبنا غير واقعي ولم يأت من استقراء حقيقي لما يحدث. نعلم أن الجميع يدّعي حبك وأنت تعدّ سكاكينهم التي غرزت في صدرك. ونعلم أكثر مما ينبغي وأكثر مما يقال. ولكننا لا نعلم متى ينتهي صخب أنينك في رأسك وصداه في قلوبنا. آه يا وطن!

Ad

لم يبق لنا، نحن عشاقك، الذين استكثروا حتى حبنا فيك سوى أن نعلن لك عجزنا الكامل في مواساتك. نعلن لك فشلنا في مسح دموعك بأكمام قمصاننا وأطراف "غترنا". نعلن لك خيبتنا في صد موجة الغبار عن بهاء عينيك. نعلن لك أننا تركناهم بإرادتنا يمسحون كل ما هو جميل فيك ليأخذه الغبار في طريقه الى المجهول. ها نحن نقف متفرجين وهم ينزعون الشرائط الملونة عن ضفائر بناتنا ويسدون النوافذ كي لا يلوحن بأيديهن للشمس. نقف عاجزين عن حماية إرثك الجميل وعن منع التراب الذي يتراكم فوق تاريخك الأجمل والأبهى. آه يا وطن!

ها هم ينجحون بإرادتنا الميتة من اختطافك الى دهاليزهم المظلمة ويحرقون ما نعشق فيك أمام أعيننا. يهينون علمك الذي ارتديناه ونحن نغني لك قصائد فرحنا وفرحك وارتديناه ونحن نبكي جرحنا وجرحك. ها هم يستهينون بنشيدك الوطني ويكفرون به، نشيدك الذي افتتحنا فيه أول يوم مدرسي واختتمنا فيه آخر نهار في كلياتنا العلمية والعسكرية. يجب ألا نلوم أحد سوانا وألا نعتب على أحد غيرنا، جميعنا خذلناك وتركناك وحيدا يسلبونك كل ما أحببنا فيك. آه يا وطن!

ليس لما يريدون حد حتى يخيطوا آخر غرزة في كفنك الأسود الذي يصممونه بهدوء ويدقون آخر مسمار في نعشك ويصلون عليك وهم مطمئنون أنهم أوصلوك الى نهايتك بأمان المؤمن وبقلب الواثق بأن هذا هو قدرك الأخير. وسيبدأ فصلا طويلا من الذعر سنضطر فيه لأن نستمع لأغنية قديمة اسمها "وطن النهار" تحت عباءات العجائز كي لا يشي بنا أحد لشرطتهم السرية التي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. سنضطر أن نهرب الى أي بلد قريب أو بعيد لنشاهد عرضا مسرحيا عنك لا يسمح لنا أن نشاهده على أرضك ونخرج بزفرة حادة: آه يا وطن!

لست متشائما ولكنني أرى وأكره ما أرى. لست متشائما ولكنني أقرأ ما بين سطور أدبياتهم وأعرف الطريق الذي يريدون كما أعرف الطريق الذي كنا. لست متشائما ولكنني حزين وليس بما يكفي لأخاف على تاريخي وحاضري ومستقبل أخوتي وأبناء وطني. اخاف ان يمسح هذا الغبار جميع خطواتنا عليه وكل ما رسمناه وكتبناه له وعنه. أخاف على وطني أخاف ألا نتمكن حتى من وداعه ومسح أطراف أصابعه وهو يحتضر. لست متشائما ولكنني أشبه بقلب الأم الذي يعتصره الحزن على ابنها المريض ويملؤه الأمل بشفائه. لست متشائما ولكنني أخاف أن يصدق حدسي (لا أحب هذه الكلمة) وأصرخ من فقدي: آه يا وطن!