فجر يوم جديد: دكتور جيكل ومستر هايد
لا يمكن لمشاهد فيلم «حظ سعيد»، الذي يُعرض الآن في الصالات السينمائية من بطولة أحمد عيد، أن يصدق أن المخرج طارق عبد المعطي الذي أظهر براعة ومهارة في توظيف فن التحريك، وهو يستهل الفيلم بمقدمة «كارتونية» توحي برسالته، ثم مزج بمقدرة فائقة بين المشاهد الواقعية لميدان التحرير، إبان ثورة 25 يناير، والمشاهد التي أعاد تمثيلها لأحمد عيد في «مناطق التصوير المفتوحة»، وجاءت مُبهرة ومُتقنة بدرجة لا تُصدق، هو نفسه «عبد المعطي»، الذي كان «تقليدياً» بشكل صارخ، وهو يترجم سيناريو «حظ سعيد»، الذي كتبه أشرف توفيق في أول تجربة سينمائية له إلى صورة قوامها «الرتابة»، وسياقها «التكرار». المخرج الذي لا يتجاوز رصيده فيلماً واحداً هو «عجميستا»، افتقد عنصر «المباغتة الدرامية»، وسار على وتيرة واحدة تشعر خلالها بأنك تتابع أحداثاً «قديمة» رأيتها مئات المرات منذ قيام ثورة يناير، وبالتتابع نفسه الذي شاهدناه على أرض الواقع، بفارق وحيد يتمثل في أن «عبد المعطي» استبدل اللقطات التسجيلية بمشاهد تمثيلية مع احتفاظه بالوقائع نفسها التي رأيناها سابقاً، والمعلومات التي حفظناها عن ظهر قلب. في هذه النقطة تحديداً تكمن أزمة «حظ سعيد»؛ فالبطل «سعيد»، أحمد عيد، «بائع سريح» مُخادع يحتال على السائحين، ويبيع لهم الوهم في شكل «أنتيكات» مزورة، وقطع أثرية مزيفة، وهو تقديم ينسف، منذ الوهلة الأولى أي تعاطف مع «البطل»، الذي يتعرض لتحرش أمني معتاد ينتهي باقتياده إلى «المخفر»، وهناك يتعرض لأسوأ أشكال التعامل، وأبشع أنواع الإهانة، بينما يؤكد «الخطاب الرسمي» أهمية إعلاء «كرامة مصر والمصريين» وأن «مصر لن تتهاون مع من يسيء إلى كرامتها أو كرامة أبنائها»، وهو التوظيف الذي يحمل قدراً من الوعي السياسي قبل الفني. لكن المخرج، ومن قبله السيناريست، يفرطان في استخدامه حتى يتحول إلى «إفيه» مكرر، ففي كل مرة يُقتاد فيها «سعيد» إلى قسم الشرطة، تتردد مقاطع أخرى من «الخطاب» ترسم صورة لوطن وردي بينما الواقع الأسود يطارد «سعيد» وأمثاله على أيدي حفنة من المرضى النفسيين والسماسرة والفاسدين.
مشاهد حقيقية جرت كثيراً على أرض الواقع، لكنها افتقرت إلى الحرفية من ناحية، والحس الإنساني من ناحية أخرى، وتعكس مراهقة سياسية تستمر طوال أحداث فيلم «حظ سعيد»، فالبطل الحاصل على شهادة متوسطة ويعاني البطالة، وعاجز عن اتمام زواجه من «سماح» التي عقد قرانه عليها، وينتظر شقة المحافظة، يبدو ساذجاً في لحظة ثم ينقلب فجأة، وعلى غير توقع إلى مواطن يقظ وواعي ومُدرك، فهو الذي يعتدي على نائب مجلس الشعب عندما يفوَت على أمه، التي تعاني أمراض الدنيا فرصة العلاج على نفقة الدولة، ويمنح الاستمارة الوحيدة المتبقية لصديقه رجل الأعمال لأنه مصاب بـ «كحة»(!)، وهو أيضاً الذي يوافق عميل النظام «السمسار»على خطته الرامية إلى إقناع الشباب الذين حصلوا على موافقة بتخصيص شقق المحافظة بالتنازل عنها ليستثمر قطعة الأرض في مشاريع أخرى، وهي موافقة لا تتم بحسن نية، كما نظن، لكن بشروط مالية وعقارية يوافق عليها «سعيد»، وهو ما ينفي عنه السذاجة، التي يحاول السيناريو والفيلم بأكمله أن يقنعنا بها لدفعنا إلى التعاطف معه في المشاهد الأكثر سخونة. فالبطل الذي يصوره الفيلم بأنه واقع في تناقضات هائلة تنعكس عليه في استقباله للثورة، فيستغرب موقف شقيقته المؤيد للثورة، والمناصر لها بحماسة تدفعها إلى مغادرة المنزل، والإقامة في «التحرير»، ومعاناته من التدهور الاقتصادي الذي وصل إليه البلد، نتيجة هذه الثورة، وترك آثاره السلبية على المواطن «الكادح» لا يقنعنا بالأسباب التي تدفعه إلى التورط والمشاركة في مؤامرة ضد أبناء وطنه، وموافقته على تقاضي أموال بل وتحمسه لإلقاء خطاب لابتزاز «السمسار»، فلا يمكن اعتبار موقفه سذاجة بل انتهازية دفعته إلى الاستماع إلى أفكار ومبادئ التيارات السياسية والدينية المختلفة، التي تحاول بدورها استقطابه. لكنه يظل حائراً ومتخبطاً لفرط غموض وتعقيد ما استمع إليه من مصطلحات «ليبرالية» و{علمانية» و{سلفية» و{إخوانية»... وغيرها. السيناريو هو الذي تعمد كما رأينا أن يُدخل «سعيد» والجمهور في «متاهة»، وهو أيضاً الذي برر أفعاله بالجهل والسذاجة وقلة الوعي، بينما نستشعر في كل لحظة بأنها «سذاجة الانتهازية» و{الجهل الذي تقوده المصلحة الشخصية»، ومن ثم جاءت «لحظة التنوير» ملفقة بعكس البساطة الأخاذة للمشاهد المستقبلية التي رأينا فيها البطل بعد 30 عاماً وقد تزوج وأنجب ثلاثة أبناء يمثلون التيارات السياسية والدينية المتصارعة، وهي البساطة والتكثيف اللذان لم يعرفهما الفيلم في مواقف كثيرة منه حتى يُخيل للمشاهد أن المخرج طارق عبد المعطي لم يكن سوى «دكتور جيكل ومستر هايد»!