هبت رياح الحرب الهوجاء على لبنان عام 1975 ولم تهدأ إلا بعد عقد ونصف العقد. وبينما غرق لبنان عموماً، وبيروت خصوصاً في بحر من الدم، قرر لبنانيون كثر الهجرة إلى بلاد الغرب، خوفاً على حياتهم ومستقبل أولادهم. حمل هؤلاء في قلوبهم جمال لبنان وروعته. وهكذا ظل الحنين إلى الوطن يراودهم. عندما سكتت المدافع، قرر البعض العودة إلى أرض الوطن.

Ad

كانت سلمى عبد النور في الثامنة من عمرها حين اختار والداها الهرب بها وبأخيها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهناك عاشت، إلا أنها لم تنسَ يوماً لبنان. حلمت منذ صغرها بالعودة إلى منزلها، مدرستها، أصدقائها، وأفراد العائلة الذين خلفتهم وراءها. لم يكن قرار العودة سهلاً. فكانت سلمى قد بنت لنفسها حياة مهنية واجتماعية مزدهرة. فكانت تعيش في نيويورك وتعمل كاتبة ومحررة. كذلك ربطتها بمدرس علاقة حب. رغم ذلك، اختارت هذه المرأة اللبنانية أن تتخلى عن حياتها هذه لتعود إلى منزلها في أرض الوطن، فحزمت حقائبها واستقلت الطائرة عائدة إلى بيروت.

أمضت سلمى في لبنان سنة، اختبرت خلالها الحياة في مدينة عريقة، معقدة، وكثيرة الاضطرابات. قررت تسجيل تجربتها هذه في كتاب عنونته Jasmine and Fire (الياسمين والنار). دونت في صفحاته مواجهتها تداعيات الحوادث الأخيرة في المنطقة وبحثها عن العزاء والمتعة في إحدى أبرز ميزات بلدها الأم، مطبخه وأطباقه الشهية. وإليكم مقتطفاً من تجربة هذه الكاتبة.

جلست على حقيبتي، محاولةً إغلاقها عنوة كي أتمكن من إقفال السحابة. سأركب الطائرة في وقت لاحق من هذا اليوم قاصدةً بيروت. لكني أشعر راهناً بالامتنان لهذه التفاصيل الصغيرة الملحة التي تلهيني، لأني إن ظللت أفكر في قراري، فسأتراجع وأتصل بخدمة سيارات الأجرة لألغي رحلتي إلى المطار. صحيح أن هذه الخطوة تبدو لي كبيرة في الوقت الراهن، إلا أني ذكّرت نفسي خلال ساعاتي الأخيرة في نيويورك بأنها ليست فكرة مجنونة، على الأقل من وجهة النظر اللوجستية. يجب ألا يكون لهذه الخطوة تأثير كبير في حياتي المهنية. أعمل منذ بضع سنوات ككاتبة ومحررة حرة. فقد قررت قبل فترة التخلي عن العمل وراء مكتب في مجلة واحدة بعد نحو 15 سنة أمضيتها في هذا المجال. وهكذا خصصت الوقت للمشاريع المستقلة المربحة التي عُرضت علي، وصار بإمكاني السفر فترات طويلة من دون أن أخسر مصدر رزقي.

كان بإمكاني تنفيذ مشاريع كبرى من بيروت كما من نيويورك. علاوة على ذلك، لا داعي لأن أقلق حيال العثور على مسكن أقيم فيه، بما أن والديّ لم يتخليا عن شقتنا في بيروت طوال كل هذه السنين، رغم أنهما أمضيا الجزء الأكبر من حياتهما في هيوستن.

مع أن تفصيلين من التفاصيل اللوجستية المعقدة المحيطة بانتقالي للعيش في لبنان (العمل والمسكن) لم يشكلا أي عقبة، ظلت سلبيات وإيجابيات هذه الخطوة تدور في ذهني بلا هوادة، حتى في اللحظات الأخيرة. رحت أفكر طوال أسابيع في الطريقة المثلى للتعاطي مع أي سيناريو قد أواجهه في بيروت، مع أنني أدرك أني ربما غفلت عن السيناريوهات الفعلية غير المتوقعة كافة التي قد أصادفها هناك. كنت أتمدد في سريري لساعات كل ليلة وأمواج الأرق والحزن والحماسة والخوف تحرم عينيّ النوم.

لكن الخوف والتردد ما عادا واردين اليوم. فسينتقل المستأجر الموقت إلى شقتي في نيويورك ليلاً، وعلي أن أنتهي من توضيب متاعي وأسرع في الرحيل. كانت هذه الأفكار تدور في رأسي في الصباح الباكر. استيقظ ريتشارد لتوه من النوم. كان قد أمضى ليلة أمس في شقتي كي يودعني. لكن الحظ لم يكن حليفي خلال يومِي الأخير هذا في نيويورك: فقد انقطعت المياه عن شقتي أو بالأحرى عن المبنى بأكمله، كما تبين لي لاحقاً. وكنا أنا وريتشارد نريد الاستحمام، إلا أن الحنفيات كلها جفت بالكامل.

لا شك في أن انقطاع الماء عن المبنى العصري الذي أقيم فيه في وسط مانهاتن يُلائم تماماً الصباح الذي أغادر فيه إلى بيروت، مدينة الانقطاع الدائم للكهرباء والماء. شعرت أن هذه دعابة كونية متعمدة، أو ربما تريد قوة عظمى أن تخفف من وطأة انتقالي إلى الحياة في بيروت حتى قبل وصولي إلى هذه المدينة. لكن هذه المعضلة، رغم وجهها المضحك، سببت لي استياء كبيراً. فما كان باستطاعتي القيام برحلتين دوليتين متتاليتين تدومان 20 ساعة من دون الاستحمام. دخلت الحمام مرة وأخرى، وفتحت الحنفية، فخرجت منها قطرات خفيفة من الماء البارد المثلج. أما الماء الساخن، فلا أثر له.

ما كان بإمكاني الاستحمام صباحاً بماء بارد، خصوصاً أنني أمرّ بحالة نفسية عصيبة. ففي الليلة السابقة، بكينا أنا وريتشارد، تعانقنا، تحادثنا عن مخاوفنا، وبحنا بحبنا أحدنا للآخر للمرة الثانية فقط. كانت المرة الأولى الأسبوع السابق، حين همس ريتشارد في أذني، قائلاً إنه يحبني، فيما كنا ممددين جنباً إلى جنب في غرفة الضيوف في منزل أحد أصدقائنا على الشاطئ. جاء اعترافه هذا بعد أن أدركنا أنه لم يتبقَّ لنا سوى أسبوع معاً. قبل أن يغلبنا النوم ليلة أمس، قررنا أن يكون الصباح التالي كغيره، كي لا ننهار. اتفقنا على أن نظل على اتصال خلال إقامتي في بيروت، وننتظر لنرى ما سيحدث خلال الأشهر التالية. سنحاول أن نستغل وضعنا هذا قدر الإمكان ونترقب ما ستحمله لنا الحياة مع انقضاء السنة. قد لا تكون هذه الأفكار مطمئنة، إلا أنها ليست كارثية أيضاً.

لا شك في أن الادعاء أن هذا يوماً عادياً كغيره من الأيام (يتوجه ريتشارد إلى عمله كمدرس، فيما أقصد أنا المطار كما لو أني سأقوم برحلة عمل قصيرة) كان فكرة سخيفة من الأساس. ما كان أمامي من وسيلة لأجتاز هذا الصباح بنجاح وأتوجه إلى المطار من دون أن أنهار إلا أن أذكّر نفسي باستمرار أنني سأعود إلى نيويورك لنحو أسبوع خلال الخريف كي أملأ حقيبة أو اثنتين أخريين بملابسي الشتوية التي لم أستطع حملها معي بسبب الحدود الصارمة التي تفرضها شركات الطيران على وزن الحقائب، أتأكد من أن المستأجر الموقت لا يخرب شقتي، وأرى ريتشارد في حال استمرت علاقتنا الفتية. تساءلت عما إذا كان سيود مقابلتي حين أعود. لكن ساعة الرحيل أزفت، وكان علي التركيز على أمرين مهمين: الاستعداد والوصول إلى المطار في الوقت المناسب.

أدرت الحنفية مرة أخرى، وكلي أمل بعودة الماء الساخن. لكن أملي هذا سرعان ما تحطم. ترددت أمام تدفق الماء البارد... وبدأنا كلانا بالضحك. بدا لي هذا الموقف غريباً، مضحكاً، وسخيفاً نوعاً ما، وهذا ما احتجت إليه بالتحديد.

صر ريتشارد أسنانه وخاض غمار الماء البارد، ثم ارتدى ملابسه وودعني. رحنا نضحك متذكرَين الماء البارد، تبادلنا القبل، تعانقنا بسرعة، متعمدَين عدم إطالة العناق.

كيف يمكنني الرحيل؟ وكيف يمكنني ألا أرحل بعدما أخبرت الجميع؟ ربما أتمنى أن أعانق ريتشارد لساعات وأطلب البيتزا وأبقى هنا معه. ربما أود أن تبقى حياتي في نيويورك كما هي إلى الأبد. أو ربما أصبحت أخيراً مستعدة لخوض هذه المغامرة. لو كان مقدراً لعلاقتي بريتشارد أن تدوم، فسنتخطى الصعاب كلها على ما أظن. رحت أزرع الشقة ذهاباً وإياباً. انتابني مزيج من المشاعر، فكنت متحمسة ومحطمة في آن. لكن الوقت قد حان لأستعد، أحزم حقائبي، أقفل شقتي، وأنطلق.

خلال رحلتي بسيارة الأجرة نحو المطار، حاولت أن أتصرف بلامبالاة مصطنعة قدر الإمكان، فيما رحت أتأمل أفق مانهاتن، الذي اختبأ بعض ملامحه وراء ضباب الصباح. فجأة اختفى هذا المشهد الخلاب، الذي يظهر على كثير من البطاقات البريدية، لتحل محله مباني بروكلين السكنية وصفوف متاجر البقالة المتخصصة ومحال السمانة. انطلقت السيارة مسرعة على جسر وليامسبرغ. بدت لي تلك المشاهد اليومية العادية، التي بالكاد أذكرها راهناً، مثقلة بالمشاعر، فيما تابعت السيارة سيرها الحثيث مبتعدةً. كانت ألوان مظلات المتاجر وأزياء عمال النظافة وشاحنات الباعة الجوالين بارزة على خلفية السماء الرمادية.

وما هي إلا لحظات حتى كنت أنتظر عند بوابة المغادرة في مطار جون كينيدي، وأنا أقلّب صفحات مجلة عن أخبار المشاهير عثرت عليها على أحد الكراسي وأحاول التفكير في مسائل بسيط. فهل جينيفر أنيستون حامل حقاً هذه المرة؟ ألم أرَ هذا العنوان ذاته يملأ المجلات الفنية كلها قبل سنة أو سنتين تقريباً؟ شعرت كما لو أن ذلك حدث أمس. إذاً، السنة تمر بسرعة، أليس كذلك؟

صعدت إلى متن الطائرة. وأوقعت القهوة على ملابسي، فيما كنت أحاول إقحام الحقيبة التي أحملها بإحدى يديّ في علبة فوق رأسي، وأنا أمسك بيدي الأخرى كوب قهوة بالحليب خالية من الدسم. بدأ تأثير المجلة الفنية يضمحل سريعاً. لا، لا تمر السنة بسرعة.

قررت أن أبكي طوال الرحلة إن شعرت برغبة في ذلك. أو ربما أتحلى بالقوة والعزم الراسخ، إن استطعت. أو ربما أدخل حالة من الهدوء والتسليم بالأمر الواقع، حالة عاطفية أعتبرها المثلى، مع أنني لم أستطع بلوغها إلا في مرات قليلة من حياتي. خلال الساعات الثماني الأولى من الرحلة والساعتين اللتين أمضيتهما في روما ثم الساعات الخمس التالية إلى أن بلغت بيروت، كنت أتأرجح بيأس بين هذه الحالات الثلاث. وعجزت عن النوم، مع أني لم أسمع طوال الرحلة صراخ أطفال أو أغاني بسبب المطبات الهوائية.

كانت رحلتي عموماً، بما فيها الاستراحة ساعتين في مطار روما الكثير الضجيج، إحدى أفضل الرحلات التي قمت بها. انتقلت أمتعتي بسهولة من روما إلى بيروت رغم قصر مكوثنا في روما، وهذا لا يُصدَّق. كذلك لم نطل الانتظار عند نقاط الجمارك والهجرة في مطار بيروت. وفيما عبرت ذلك المطار العريق، الذي هشمته القذائف مراراً قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، لاحظت للمرة الأولى أنه رُمم أخيراً ليتحول إلى مطار دولي عصري. وخُيّل إلي أن العمل فيه يسير بسلاسة أكبر مما شهدته في مطار جون كينيدي. قد لا يكون هذا مميزاً، إلا أنه يُعتبر إنجازاً في بلد مزقته الحرب ويرزح تحت وطأة البيروقراطية المعقدة.

رغم أن رحلتي خلت من أي مشاكل، كانت أمتعتي في حال أفضل مني. فعندما ترجلت من الطائرة، كانت دوامة المشاعر قد أخذت مني كل مأخذ، فتملكني التعب. كانت عمتي مارسيل وابنتها جوزيت تنتظرانني في المطار في بعد ظهر ذلك اليوم الحار من شهر أغسطس لتقلاني إلى شقة عائلتي القديمة.

ما إن خرجت من باب المطار ووقفت على الرصيف وأنا أتصبب عرقاً حتى رأتني ابنة عمتي جوزيت، امرأة جميلة شعرها أسود في أواخر أربعيناتها، وراحت تناديني. لطالما اعتبرت جوزيت إحدى أفضل قريباتي، فهي مصممة ديكور مبدعة وناجحة وامرأة حنون إنما فائقة الذكاء لم تتزوج مطلقاً. كنت دوماً اعتبرها الدليل الأول في حملة «لا ضرر في رفض الزواج» التي أشنها بصمت ضد أقربائي، ضد تلك الجوقة اللبنانية الخيالية، أو ربما ضد نفسي. رافقت جوزيت والدتُها، عمتي مارسيل، امرأة خجولة صوتها رقيق ترملت بعدما مات زوجها في ريعان الشباب جراء إصابته بنوبة قلبية خلال الحرب. كانت مارسيل قد صففت شعرها الذي ينسدل حتى ذقنها بعناية بالغة، وارتدت سترة وتنورة لونهما أرجواني غامق، ما منح بشرتها الداكنة بريقاً مميزاً. كوّمنا حقائبي في صندوق سيارة جوزيت وانطلقنا إلى شقة عائلتي في الحمرا، شارع في منطقة رأس بيروت التي تقع على تلة عالية في غرب مدينة بيروت.

يوم أمس، كنت أتجول في نوليتا، حي فاخر من أحياء مانهاتن قرب منطقة «ليتل إيطالي». انتقلت للعيش في تلك المنطقة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، مع أنها لم تكن قد بلغت بريقها الحالي. أمضيت بعد الظهر في تأمل المشاهد التي مررت بها يومياً طوال سنوات، إلا أني بالكاد توقفت لأنظر إليها: متاجر الأحذية والملابس العصرية الصغيرة إنما المميزة، المطاعم المكتظة والمقاهي التي تنشر مظلاتها على الأرصفة، الرجال الإيطاليون المسنون الجالسون على شرفات سلالم الحرائق الصدئة في أبنية قديمة وهم يرتدون قمصاناً قطنية بيضاء، مجموعات محبي الموضة والسياح الفضوليين التي تتداخل بجاور مقهى «هابانا» عند زاوية شارع إليزابيث الناشط، المشاة الذين يسيرون ببطء وهم يتحدثون على هواتفهم الخلوية، وذلك المتجر الإيطالي القديم الذي يبيع اللحم والجبن. حاولت أن أحفظ التفاصيل كلها. حملت ذهني على التقاط صور عن كثب لكل ما يدور من حولي، صور أردت العودة إليها في حال شعرت بحنين عميق إلى نيويورك وأنا في بيروت.

بيروت

ها أنا أصل في بعد ظهر يوم الاثنين هذا من شهر أغسطس إلى بيروت لأواجه الطقس العالي الرطوبة والحرارة التي تبلغ السبع والثلاثين درجة مئوية. لا تزال الفوضى تعمّ الشارع المؤدي إلى الحمرا من المطار. فرأيت السيارات والدراجات النارية تسير في كل اتجاه، تسرع في الاتجاه المعاكس في طريق ذي اتجاه واحد، تختصر الطريق مستعينة بالأرصفة، وتلتف وسط السير المتدفق. فبدا لي أن بعض أوجه هذه المدينة لم يتبدل، مع أنها في حالة تغيّر مستمر. علا فيها خليط مجنون من أبراج سكنية شاهقة عصرية براقة، منازل حجرية تعود إلى القرن التاسع عشر ترتسم نوافذها على شكل قناطر وتتزين شرفاتها بأزهار الجرانيوم والياسمين والغاردينيا العطرة، وبقايا منازل وفنادق قُصفت ودُمرت خلال الحرب. كان هذا الخليط الغريب من الأبنية يصطف على جانبَي طرقات متعرجة تحدها كتل أزهار الجهنمية ومستوعبات سوكلين للنفايات. تحيط بأحياء بيروت طرقات سريعة متعددة المسارات تخترق المدينة وتدور حولها. وأينما نظرت، رأيت سيارات فيراري وسيارات رياضية جديدة، سيارات مرسيدس وبيجو بالية تعود إلى السبعينيات، باعة جوالين يدفعون عرباتهم وسط الزحمة، وشبان خدمات التوصيل يركبون دراجاتهم النارية الصغيرة على الأرصفة. وكلما أصغيت، سمعت أصوات أبواق السيارات والصراخ المتعالي من نوافذها، وأغاني شجية عذبة تنشدها فيروز، صوت لبنان العريق، وتتنافس وسط الشارع مع ألحان Method Man بإيقاعها الصاخب المتصاعد من سيارة مجاورة. على طول هذه المعمعة اليومية يمتد البحر الأبيض المتوسط ببريقه الأزرق ويلتف معانقاً شواطئ بيروت الشمالية والغربية.

يطل الكورنيش، تلك البقعة العريضة والدائمة الاكتظاظ على طول الواجهة المائية، على بحر أزرق ساحر. في شهر أغسطس، تتمدد النساء بأثواب السباحة البيكيني على كراسٍ مستطيلة في المسابح الفاخرة على بعد خطوات قليلة من الكورنيش، في حين تناضل المنقبات ليسرن على الرصيف في مواجهة المتزحلقين المسرعين، راكبي الدراجات بملابسهم الرياضية الضيقة، الشابات اللواتي يرتدين تنانير قصيرة جداً، وباعة الشوارع المسنين الذي يقدمون لك الكعك بالسمسم وعصير البرتقال الطازج، كل هذا وأمواج البحر الأبيض المتوسط تتكسر على الشاطئ الصخري غير عابئة بما يدور من حولها.

حمل هذا البحر طوال قرون الكثير من الدمار لبيروت، من السفن المحملة بالغزاة والأسلحة (الرومان والمصريون والأتراك) قبل مئات وألوف السنين إلى موجة المد المهولة التي خربت المدينة في القرن السادس بعد الميلاد، وصولاً إلى الغزو الأميركي والإسرائيلي في العقود الأخيرة. ولكن خلال كل هذه المآسي، تحولت هذه المياه الزرقاء المالحة والشواطئ المشبّعة بالشمس إلى مصدر للمتعة وغسلت فيضاً من الأحزان.

بدأت بيروت أخيراً تنهض بسرعة وعنفوان. وهذا ما عهدته فيها كلما أتيت لزيارتها. في شوارعها التي لا ترحم، يُضطر السائقون كالعادة إلى التعامل مع إشارة سير غير ملائمة، قاطعين طريق أحدهم الآخر. وعلى كل مَن يقود أي نوع من الآليات في هذه المدينة أن يتحلى بسرعة البديهة، العدائية، والقدرة على الدفاع عن النفس، كل هذه في آن. ما من وقت للتفكير في ما إذا كان عليك الالتفاف ومتى. يجب أن تتخذ قراراً سريعاً وتمضي به قدماً، أو تضطر إلى الانتظار في التقاطع ذاته ست ساعات أو ربما ستة أسابيع. ونحن في طريقنا إلى الشقة، راحت ابنة عمتي العزيزة جوزيت تشق طريقها وسط الزحمة بيقظة وتنبه إنما بإصرار وعزم. ولم تتردد في رفع إصبعها مهددة في وجه كل سائق ظن أنها قد تتراجع أمامه. أخبرتني عن العدد المتزايد ممن لقوا حتفهم في حوادث السير هذا الصيف. وفجأة ضغطت على المكابح وبدأت تهز رأسها متأففة من سائق غبي كانت سيارته تتمايل أمامنا في الاتجاه المعاكس. فالتقطت خصل شعرها الشقراء وقرطاها المستديران الذهبيان بريق أشعة الشمس الأخيرة.

اقتربنا من حينا القديم، وما هي إلا دقائق حتى دخلنا شارع الحمرا، أحد شرايين بيروت الغربية الرئيسة بكل ما يتميز به من متاجر وأسراب المشاة. فيما سرنا ببطء في السير المزدحم، تأملت صفوف المحال. فرأيت متجر HandM الجديد وسط مجموعة من متاجر الألبسة القديمة التي تعرض بضائع تعود بالتأكيد إلى ثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن مقهى ستاربكس بطابقيه. قربه شاهدت بضعة محال صغيرة تبيع العصائر، ما زلت أذكرها منذ صغري. وعلى بعد أمتار قليلة منها انتصبت مكتبة أنطوان برفوفها المترتبة بدقة. وكم فرحت بأنها لم تقفل أبوابها! أخيراً، التففنا إلى اليمين ووصلنا إلى جاندارك، شارعي وموطني عام 1981 واليوم أيضاً.

استمرت زحمة السير في هذا الشارع الضيق. عبرنا قرب متجر لبيع الأزهار ومتاجر لبيع القرطاسية بجوار حرم الجامعة الأميركية في بيروت، الذي تكثر فيه الخضرة ويقع على بعد شوارع من تلة قليلة الانحدار. اجتزنا الشارع بضع مرات باحثين عن مكان نركن فيه السيارة. وأخيراً عثرنا على بقعة جيدة قرب الشقة التي تحتل الطابق الرابع من مبنى مطلي باللون الأبيض ويضم ثمانية طوابق بناه في خمسينيات القرن الماضي عمي الأكبر بهيج مقديسي، مهندس بارز في بيروت.