هوّة أنّا كَرَنينا
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
الفيلم خلطة لا تخلو من غرائبية، ولكن عناصرها بالغة الروعة جميعاً. لقد شاء المخرج أن يبدأ الأحداث واقعية، من حيث المكان، بقاعة مسرح غير واقعية: تُسهم في هذا الميل كل عناصر فن التصوير، والأزياء، والتمثيل الإيمائي، وحركة الشخوص، حتى نعود فجأة إلى المنحى الواقعي للأحداث. وبقدر ما تثير هذه الخلطة البارعة الحواس، بقدر ما تخفف من عنصر التشويق الذي تمليه الأحداث. ولكن ما مقدار أهمية عنصر التشويق هذا في الفن السينمائي؟ الفيلم يملأ العين والسمع والقلب والعقل بثمار سينمائية خالصة. فيخرج أحدنا بامتلاء فني، ولكنه يترك ما يؤلب عليه الفيلم (أو الرواية) من معانٍ في كيان أحدنا إلى ما بعد المشاهدة. لأن حب "أنا كرنينا" المفاجئ المحترق يخصنا جميعاً، رجالاً ونساءً. صحيح أن الذين تعرضوا إلى تراجيديا العواطف الحارقة قلة، ولكن ألم تقف الكثرة منا على حافتها الخطيرة؟ الجملة الشهيرة التي يبدأ بها "تولستوي" الرواية تقول: "كل الأسر السعيدة سواءٌ في الشبه، ولكن الأسرة التعيسة تنفرد بتعاستها وحدها". ولعل هذا يعني أن تراجيديا الحب المفاجئ المحترق إنما تكمن في العزلة. السعيد يملك لغة مشتركة مع السعداء. ولكن التعيس لا يملك لغة مشتركة مع أحد. يرى العالم جميعاً يأخذ مساره دونه. إن قلب "أنّا" لا بد شعر بذلك. إن رواء قلبها كامن في طرف مقطوع، هو طرف من تحب وقد انقطع بفعل واحدة من هذه العوامل التافهة في عمومها. في الفيلم، كما في الرواية، تعرية لسوءات المجتمع المخملي. ثم يفتح تولستوي هوة سوداء مفاجئة باسم الحب. تتولاها "أنّا" الارستقراطية، التي تلتقي مصادفة بشاب تام الشياكة والوسامة. تقع في حبه، الأمر الذي يستدعي هجران زوجها وصغيرها، ومواجهة مجتمع تقليدي معادٍ. إضاءة الحب تغدو ليلاً حالك السواد، لعله ليل الغريزة الكاسرة. ليل يقود ضحيته البائسة إلى حتفها، حيث تلقي نفسها تحت قطار، في محطة سبق أن التقت فيها الشاب الوسيم. في مقابل هذه الغريزة الكاسرة هناك غريزة غير كاسرة لشاب مثالي يُدعى "ليفن" مالك لأراضٍ وفلاحين، يحب شابة لا ترتضيه، فيُكسر. ولكن انكساره العاطفي يقوده إلى الالتحام بحياة الفلاحين البسيطة، فيجد فيها خلاصاً. هل أراد تولستوي أن يخيرنا؟ كان هو ذاته، في حياته الواقعية، داخل معترك كهذا. كان يريد أن يتخلى عن أراضيه للفلاحين، ويلجأ إلى رحابة الحياة الروحية. ولكن زوجته، وعائلته ومجتمعه أبى إلا أن يحرمه من خياره. فهجر كل شيء وهرب في قطار، هو الشيخ المُسن، ليموت داخل إحدى محطاته.