يصرّ أهل الحداثة الأدبيّة، عندنا، على محاولة اجتراح المفاجأة بالغموض، وكأنّهم بذلك يردّون على أهل الكلاسيكيّة الذين بأكثريّتهم حاولوا إيقاظ الدهشة بالوضوح. وممّا لا شكّ فيه أنّ الغموض ذو قدرة أكبر على المفاجأة، دون أن تعني هذه المفاجأة نجاحاً بالمعنى الإبداعي، وفي حالات كثيرة، بينما يُعتبر الوصول إلى مكامن الدهشة لاجتراحها، في الوضوح، أمراً بالغ الصعوبة.

Ad

    واستناداً إلى العنوان، يكتب بيضون في «عينان ترمش بلا نهاية تحاولان عبثًا الاستيقاظ» بعينين ليستا على ضفّة النّوم، وعلى رغم رَمْشِهما الدائم بقيتا بعيدتين عن ضفّة اليقظة. كذلك هي جملة صاحب هاتين العينين تكاد أن تصل إلى المعنى فتخشى الوضوح وتنسحب إلى شرنقة الغموض التي لا تتّسع لها كلّها فيبقى نصفها خارجها.

من «في فم الوحش»، النصّ الأوّل في المجموعة، يعرف القارئ أنّه يفتح بابًا على عالم من الغرابة، فبيضون أسير فم وحشٍ أسطوريّ: «أتفادى في اللحظة الأخيرة السقوط في بحيرة اللعاب حيث أقف»، لكنّ الأسر الحقيقيّ هو أسر نفسيّ من صناعة الوقت: «منذ متى أنا عالق داخل هذا الزّمن الدّائريّ؟» ويبوح الأسير بأسباب حلمه المزعج راجعًا إلى الطفولة وكأنّها «الصندوق الأسود» تخفي كلّ الحقيقة: «هنا أتذكّر طفولتي حينما كنت أقضي ساعات أمام المرآة أحدّق في فمي المفتوح على وسعه كأنّه بوّابة إلى عالم آخر. لطالما آمنت بأنّ اللّغز الأوّل الذي اصطدم به العقل البشريّ وتوقف عنده طويلاً كان لغز أجسامنا بالذات». يعتمد بيضون على الكلمة النازل منها عَرَقُ العِلم، فهو مسكون بمنطق الأشياء وطبيعتها، والأديب أو الشاعر الذي فيه لا يقتحم ويكون صاحب المبادرة في التعبير، على رغم أنّ للخيال دوراً بارزاً. كما أنّه، ربّما لشعوره بكثافة الغموض، يلجأ إلى التفسير، ففم الوحش ما هو إلاّ نتيجة تأمّل بيضون فمه يوم كان صغيراً، وعمليًّا هو يقف في فمه: «إنّني أقف في هذه اللّحظة داخل فمي بالذات».

بالانتقال من نصّ إلى آخر، يزداد الغموض حضورًا إلى حدّ يسمح للقارئ بأن يؤوّل كما يشاء متّكلاً على بعض ما يضيء في صدور الكلمات، فما هو المقصود بهذه الجملة، على سبيل المثال: «ابتسامة مثلّثة تكاد تكون فكرة؟» ولو كانت هذه الابتسامة مربّعة أو مخمّسة، ماذا يتغيّر؟!

ثقب في الحاضر

من الملاحظ أنّ الكثير من الكلام يمكن حذفه من النّصّ من دون الإساءة إليه، فنصّ «ثقب في الحاضر» يمكن أن يختصر بحذف السطر الأوّل والثّاني وإبقاء السطر الثّالث والرّابع فيصير: «السكوت لا يشترط معنى مسبقاً، لكنّ حضوري يظلّ موقفاً قهريًّا، ربّما عليّ أن أخرج من هنا». إلاّ أنّ بيضون يسعى، عن سابق تصوّر وتصميم، إلى جُمل طاعنة في الغموض ربّما لأنّه يريد تطويق الوضوح خوفًا منه في النصّ وكأنّه يسيء إلى الشّعريّة...

وبيضون المحاصر بالطفولة وبجدليّة الزمن ذو ألم وجوديّ يجهد للتعبير عنه، غير أنّ لغته تقف ضدّه: «بين نقطة وأخرى تليها/ هناك رجل لامتناهٍ في الصّغر/ يفكّر كثيراً/ ولا يتقدّم خطوة واحدة». فأيّ رجل يتحدّث عنه الكاتب؟ وبماذا يفكّر؟ وأيّ تقدّم يريد؟ نحن أمام نصّ بالغ الهشاشة، وهو مجرّد كلام عاديّ، ولم ينقذه عنوانه «رياضيّات»، إنّما زاده بعدًا عن جماليّة النصّ الأدبيّ... وغريب كيف يستوقفنا نصّ آخر «مخرج إلى الداخل» ونجد فيه الومض الشعريّ والصورة ذات الإيحاء المخصب: «رجل يفلح العتمة بعينين نهمتين كالمصابيح/ ... رجل يتلمّس العتمة بيدين شبحيّتين علّه يجد مخرجاً... إلى داخله».

ما يعني أنّ زكي بيضون ينوّع نصوصه ويحترف أكثر من أسلوب في الكتاب الواحد، وهو حين يريدنا أن نصل إلى زبد المعنى يترك لموج لغته أن يصل إلى الشاطئ بكامل أناقته، وحين يريدنا أن نكون أسرى الالتباس والتأويل يفعل ذلك بلا تردّد.

وفي الجزء الثّاني من الكتاب، وهو كناية عن كتاب نُشِر سابقاً «جنديّ عائد من حرب البكالوريا»، لم يتغيّر بيضون، فما زال فريسة من فرائس الزمان والمكان، لا عقارب ساعة تنجح في نسج عباءة من الطمأنينة له، لا جهات واضحة تريحه من غموضه، لا ماء يعرف ماذا يدور في خاطر عطشه: «سيّارة حمراء في رأسي تنادي الوقت. لقرون من الوحل وأنا أجول في أحشاء هذه الحياة باحثًا عن ملك»... يحتجّ بيضون احتجاجًا وجوديًّا على الحياة، فليس في نصّ من نصوصه إشارة توحي بأنّه يستطيع يوماً ما أن يعقد معاهدة سلام مع الحياة. إنّه يؤمن بشيء ما غامض في داخله، ولأنّه على يقين من أنّ الخارج صندوق خرافيّ لا يسكنه سوى الفراغ: «أحيانًا أغلق نوافذ رأسي لأصغي إلى نحيب الوقت الساكن في داخلي، أو لأبحث عن أرض صالحة لضبابي، أثبّتها بخيوط سهلة كالأحصنة». وفي هذا السياق يرد نصّ «غرفة بلا نوافذ»، وفيه إصرار على الانسحاب من متاهات الفراغ: «سأبني بإرادة حديديّة غرفة بلا نوافذ تكون بمثابة صندوق آمن أضغط فيه قلبي الدافئ. بعدها أجيب عن أيّ سؤال ميتافيزيقي بأنّه لا يهمّني ما يوجد في الخارج».

وينجح بيضون في نقل توتّره إلى نصّه الذي يوهم بالعفويّة في حين أنّه مصنوع بعناية عقليّة تطغى على كلّ عناية، لكنّ هذا التوتّر يثير ضجيجاً لغويًّا كبيراً ولا يوصل إلاّ إلى دائرة العبثيّة، فصاحب العينين الرامشتين بلا نهاية يدلّ بإصبعه كثيرًا لكن على لا شيء، أو على كلّ شيء لا يُرى، ويعلن في نصّ «دونيّة» أنّه لا يشعر بامتلائه في هذا العالم، ولا يستطيع أن يقبض على وجوده بيده، لذلك يلوذ باللغة ويرتاح لأن يبقى مطارد الكلمة وطريدتها في آن: «أقول إنّني اشعر بالدونيّة وأركل الكلمة كالحصى على الطريق/ أقول إنّني أشعر بالدونيّة وأمضغ الكلمة كالعلكة في فمي/ أقول إنّني أشعر بالدونيّة وأبتلع الكلمة التي، رغم ثقلها، تجعلني أشعر بالخواء».

رمشت عينا زكي بيضون بلا نهاية، فأدّى نصًّا يمنعه الغموض المتشابه في الحداثة من أن يكون ذا جملة خاصّة، لكنّه في عيون الكثيرين من أهل الحداثة نصّ يستطيع أن يتباهى بما يُتّهم به.