إن هذا الصيف فترة بالغة الأهمية بالنسبة إلى أوروبا، لأن منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي ربما أصبحا الآن عُرضة لخطر الانهيار، على الرغم من الخطوات المهمة نحو إنشاء اتحاد مصرفي وإعادة تمويل البنوك الإسبانية بشكل مباشر، والتي اتخذت في إطار اجتماع زعماء منطقة اليورو في يونيو. والواقع أن تنفيذ الإصلاحات المقترحة جاء متأخرا؛ وقد تكون هناك تحديات قانونية لآلية الاستقرار الأوروبي في ألمانيا؛ ويبدو أن هولندا وفنلندا تراجعتا فضلاً عن ذلك عن بعض أجزاء الاتفاق.

Ad

وحتى في أسوأ السيناريوهات، فسوف تظل درجة ما من التعاون بين بلدان أوروبا قائمة بكل تأكيد، ولكن من الصعب أن نرى كيف قد يتمكن الاتحاد الأوروبي كما نعرفه من البقاء سالماً بعد تفكك منطقة اليورو، ولو جزئيا.

إن هؤلاء الذين يزعمون أن واحدة أو أكثر من الدول الواقعة على أطراف منطقة اليورو لابد أن تأخذ «إجازة» من اليورو يستخفون بالعواقب الاقتصادية والسياسية المترتبة على مثل هذا التحرك. فالشعور بالفشل، وفقدان الثقة، والأضرار التي قد تلحق بكثيرين إذا اضطرت دولة أو اثنتين إلى ترك منطقة اليورو، كل هذا من شأنه أن يزعزع أركان الاتحاد بالكامل.

ويتلخص أحد التحديات الرئيسة هنا في حلقة من ردود الفعل السلبية تدور حول ضعف العديد من البنوك والشكوك فيما يتصل بالديون السيادية المستحقة على الدول الطرفية. ولقد أصبحت الديون السيادية والأزمات المصرفية أكثر تشابكاً مع شراء البنوك لكميات أكبر من الديون السيادية لبلدانها الأصلية.

ورغم هذا فإن الفوارق في تكاليف الإنتاج والقدرة التنافسية، والتي انعكست في العجز الكبير في الحساب الجاري لدى الدول «المتعثرة»، قد تتحول إلى مشكلة أكثر استعصاءً على الحل، فقد كان نمو تكاليف وحدة العمل في اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا أسرع من نمو نظيراتها في ألمانيا بنسبة 20% إلى 30% أثناء الأعوام العشرة الأولى من عمر اليورو، وأسرع بعض الشيء من نمو تكاليف وحدة العمل في شمال أوروبا ككل.

لقد عكس هذا التفاوت بعض الاختلافات في نمو الإنتاجية ولكنه عكس أيضاً اختلافات أكبر في نمو الأجور، وبشكل عام، أدت تدفقات رأس المال إلى إعادة تقييم حقيقية وانخفاض معدل المدخرات المحلية نسبة إلى الاستثمار في دول الجنوب، الأمر الذي أسفر عن عجز بنيوي في الحساب الجاري. وفي اليونان كان هذا الاتجاه مصحوباً بعجز مالي ضخم أدى إلى تفاقمه، وفي إسبانيا كان المقابل لعجز الحساب الجاري اقتراض القطاع الخاص.

لن تُحَل أزمة منطقة اليورو ما لم يتم تقليص هذا الخلل الداخلي في التوازن إلى مستوى محتمل، ولن يتطلب هذا إجراء تعديلات مالية في الاقتصادات الطرفية المتعثرة فحسب، بل أيضاً تعديل ميزان المدفوعات في مختلف أنحاء منطقة اليورو، وهذا بدوره يعني ضمناً الحاجة إلى تعديل حقيقي لسعر الصرف داخل منطقة اليورو، مع انحدار تكاليف الإنتاج في الدول الطرفية نسبة إلى مثيلاتها في دول القلب.

ومن الممكن أن يتم تعديل أسعار الصرف الحقيقية داخل الاتحاد النقدي، أو بين الدول التي تحافظ على أسعار صرف ثابتة، من خلال فروق التضخم، فقد ارتفعت القيمة الحقيقية للرينمنبي الصيني، على سبيل المثال، بشكل كبير نسبة إلى الدولار الأميركي، على الرغم من التغييرات المحدودة في أسعار الصرف الاسمية، لأن الأسعار المحلية في الصين ارتفعت بسرعة أكبر من ارتفاعها في الولايات المتحدة.

وأي تعديل مماثل داخل منطقة اليورو، على افتراض تماثل الأداء الإنتاجي، سوف يتطلب رفع الأجور في الدول الطرفية المتعثرة بمعدل أبطأ من مثيلاتها في ألمانيا لعدد من السنوات، وبالتالي استعادة قدرتها التنافسية. ولكن لأن ألمانيا وغيرها من دول الشمال ذات الفائض تظل عدوانية في التعامل مع مسألة استقرار الأسعار، فإن تعديل سعر الصرف الحقيقي داخل منطقة اليورو يستلزم انكماش الأجور والأسعار في دول الجنوب المتعثرة.

إن هذه الضغوط التي تمارس على الدول الطرفية لحملها على تقليص اقتصاداتها الراكدة بالفعل تشكل التحدي الأكبر الذي تواجهه منطقة اليورو، وقد ينجح توفير السيولة عن طريق البنك المركزي الأوروبي في كسب بعض الوقت، ولكن التعديل الحقيقي فقط هو القادر على علاج المشكلة الأساسية.

ومن الممكن تحقيق هذه الغاية بقدر أقل من انكماش الأجور وخسارة الدخل الحقيقي إذا كان للإنتاجية في الاقتصادات الطرفية أن تبدأ في النمو بسرعة أكبر كثيراً من مثيلاتها في دول القلب، والسماح بالتالي بهبوط الأسعار من دون الحاجة إلى خفض الأجور، ولكن في حين قد تؤدي الإصلاحات البنيوية بمرور الوقت إلى نمو أسرع في الإنتاجية، فإن هذا من غير المرجح أن يحدث في بيئة تتسم بالتقييد الشديد للائتمان، وهبوط الاستثمار، وهجرة العديد من الشباب المهرة.

إن انكماش الأسعار لا يفضي إلى إحداث ذلك النوع من التغييرات في الأسعار النسبية الذي قد يسفر عن التعجيل بإعادة تخصيص الموارد داخل الدول المعرضة للضغوط وزيادة الإنتاجية الإجمالية. والواقع أن تغيير الأسعار النسبية أمر أسهل كثيراً عندما يكون التضخم متواضعاً مقارنة بالوضع عندما يكون خفض الأسعار الاسمية مطلوبا. ولا يمكننا أن ننكر الحاجة إلى إنتاجية أعلى في الدول المتعثرة؛ ولكن من غير المرجح أن تتحقق هذه الغاية في المناخ الحالي الذي يتسم بالتقشف الشديد والانكماش، وذلك نظراً لجو من الصراع الاجتماعي الكامن أو الصريح.

وقد تحدث هذه التعديلات الاقتصادية بقدر أعظم من السلاسة إذا انتهجت منطقة اليورو بالكامل سياسة أكثر توسعا، وإذا كان في الإمكان تحديد معدل التضخم المستهدف لمنطقة اليورو بنحو 3.5% على سبيل المثال، وإذا عملت الدول ذات الفائض في الحساب الجاري على تشجيع معدلات تضخم محلية أعلى قليلاً من هدف التضخم في منطقة اليورو، فقد يحدث تعديل حقيقي للأسعار داخل منطقة اليورو من دون انكماش الأسعار في الدول المتعثرة. والآن بدأنا نلمح أخيراً بعض الدلائل التي تشير إلى أن ألمانيا سوف ترحب بنمو أسرع في الأجور المحلية ومعدل تضخم أعلى قليلا.

ومن الممكن، بل من الضروري، أن يكون هذا مصحوباً بخفض إجمالي لقيمة اليورو، ولو أن هذا لن يكون علاجاً لكل داء. وسوف يظل من الضروري خفض مستويات الدين العام المرتفعة من أجل خلق حيز مالي وإبقاء أسعار الفائدة عند مستوى منخفض بالقدر الكافي لاستعادة الثقة في الأمد البعيد، وهذا يعني ضرورة تنفيذ الإصلاحات البنيوية الشجاعة في الدول الطرفية، بل في مختلف أنحاء أوروبا.

وعلى نحو مماثل، سوف تظل منطقة اليورو في احتياج إلى تعزيز جدران الحماية المالية، فضلاً عن آليات التعاون بين أعضائها، ولكن معدل التضخم الأعلى بنسبة طفيفة، وبشكل مؤقت، من شأنه أن ييسر عملية التكيف ويعطي الإصلاحات فرصة للعمل.

إن الانكماش يعمل على إحباط المتفائلين بالمستقبل، ومن المؤكد أن إلقاء عبء التكيف بالكامل على كاهل الدول الطرفية التي تعاني عجزاً في الحساب الجاري، مع استمرار دول القلب في تكديس الفوائض، من شأنه أن يعوق عملية التكيف.

إن هدف التضخم في منطقة اليورو ليس رقماً سحريا، ومن غير المنطقي أو العقلاني أن نسمح له بتحديد الإطار الإجمالي للاقتصاد الكلي، وإذا كان المعدل الأقل أفضل في كل الأحوال، فلماذا لا نحدد الهدف عند 1%، أو حتى عند الصفر؟ في الواقع، هناك أوقات عندما كانت نسبة 3% إلى 4% أفضل من 2%، وأوروبا تمر الآن بلحظة مماثلة.

* كمال درويش المدير الإداري الأسبق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ونائب رئيس البنك الدولي سابقا، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس ومدير برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في معهد بروكنجز، وخافيير سولانا الأمين العام السابق لمنظمة حلف شمال الأطلسي، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية المشتركة، وكبير زملاء السياسة الخارجية في معهد بروكنجز، ورئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية.

«بروجيكت سنديكيت- عالم أوروبا» بالاتفاق مع «الجريدة»