لا تزال ذاكرتي تحمل مشهداً من طفولتي، إذ كنت أمشي مع جدتي رحمها الله  في حارتنا إلى منزل الجيران وكانت جدتي تلقي السلام على من يقابلها في الطريق، بل إنها كانت حين تدخل منزلها وهو فارغ  تلقي السلام. اليوم أتذكرها كلما شاهدت أحداً يلقي السلام على من لا يعرف، وليس أجمل من تحية من تعرف إلا تحية غريب تهذب فألقى عليك السلام. كنت أجد في هذا السلوك المعنى الحقيقي لكلمة "السلام". وقد قرأت في تاريخ الأجناس البشرية القديمة أن المصافحة هي سلوك نشأ بين البشر كي يثبت كلُّ غريب لأي غريب يقابله أن يده خالية إلا من السلام. حين أصبحت أسافر إلى الولايات المتحدة لم أقع في غرام عادة يمارسها الناس هناك مثلما وقعت في غرام "السلام"، وهي التحية التي يبادرك بها الناس كلما رأوك وهم يعرفون جيداً أنك غريب عنهم، تشي بذلك سحنتك وطريقتك المختلفة الظاهرة لهم، عيب أن يمر بك شخص ولا يلقي السلام. بل ويزيد من لطفه  وحسن لباقته أن يعلّق على شيء مشترك بينكما أو أي أمر آخر كالمطر مثلاً هذا اليوم، أو الغيوم في كبد السماء، أو الكمبيوتر الذي تحمله، أو الطفل الذي تصحبه، أو أي شيء يُخلي سلوكه من الغلظة والخشونة وقلة الأدب، دون أن يتطفل عليك بسؤال شخصي كمن أنت؟ وما هي قبيلتك؟ و"وش ترجعون؟". أصابتني العدوى وصرت أقلدهم كثيراً حين أدخل المقهي الذي أتردد عليه، أو عندما أمشي في حيّنا، فأحيي مَن في طريقي من النساء ومن الشيوخ الكبار وأحياناً أكتفي بابتسامة في ظني أنها كافية لإشاعة السلام، فاكتشفت أن بعضهم لا يرد علي التحية لأنه لا يتوقع أبداً أنني أسلم عليه، حتى ممن ينتمون إلى جنسيات أخرى، ومن يرد منهم ينظر إليّ بغرابة، فأشك أنهم يعتبرونني امرأة إما مجنونة أو متطفلة، وأحياناً يظن بعض من أُسلِّم عليه أنني أكلم أحداً غيره في هاتفي المحمول فلا يردون عليّ. والله فشيلة. أليس غريباً أن تغيب بيننا الدعوة الشريفة "أفشوا السلام بينكم" لتصبح سلاماً يخص الفئات التي ينحاز بعضها إلى بعض، بينما لا يخجلنا أن تشيع الكراهية ونبذ الآخر والتحزب الطائفي بل تصبح شعاراً للفئة المنتصرة. وذات مرة عطست في أحد محلات الملابس وحمدت الله، فسمعتني سيدة منقبة فرفعت رأسها نحوي متحفزة للرد لكنها وجدتني أكشف وجهي ولا أغطيه مثلها فقالت بعد زفرة: "أستغفر الله"، عرفت عندئذ أنها ضلت الطريق- "لا تفهموها غلط"- فقد كانت تقصد أن تقول "يرحمكم الله".
Ad