بين الحمّى والغزل
وزائرتي كأن بها حياءفليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايافعافتها وباتت في عظامييضيق الجلد عن نفسي وعنهافتوسعه بأنواع السقام*أبو الطيب المتنبي1ذكّرني بالأبيات السابقة أحد الأصدقاء، وكان يعاني اعتلالا في الصدر، وحمّى شديدة تعاوده وقت المساء، فكانت فرصة سانحة لاستذكار المتنبي، عرّاب الحكمة، ومبدع الشعر بشتى صنوفه من غير منازع، وعلى الرغم من أن الأبيات المذكورة، ليست هي الوحيدة فيما يتعلّق بالحمّى، ووصف السّقام، إلا أن لأسبقية المتنبي في هذا الجانب، وصدقه في وصف شجون النفس، ومفاصل الجسد حين يتغلغل فيها السقام دورا في رسوخها، وخلود مفرداتها.وثمة جانب آخر يصطنع جمالية هذه الأبيات وهو المتمثل في حالة التمويه الملتبس بين المرأة الحبيبة، وأعراض الحمى المؤلمة، فالحبيبة (المتّسمة بالحياء) تزور حبيبها خلسة في الظلام، كما أن حبّها يبقى مؤلما، ويعاف أطراف الجسد، ليستقر أبدا في العظام. هذه المقابلة الجمالية بين حالة حب عفيفة مشتهاة، وآلام حمى مضنية تشبه الحب، هي جانب من خلود هذه الأبيات في الذاكرة، كما أن القصيدة ذاتها تحوي أبياتا مشهورة في الحكمة، ومن ذلك قوله:ولم أر في عيوب الناس شيئاكنقص القادرين على التمام2الشاعر غازي القصيبي يدلي بدلوه حين كتب قصيدة في وصف الحمّى عام 1979، يقول فيها:أحس بالرعشة تعترينيوالموت يسترسل في وتينيو موجة الإغماء تحتويني فقربي مني و لامسينيمري بكفيك على جبينيوقبل أن أرقد حدثينييبدو واضحا الوصف الدقيق لأعراض الحمى، والرعشة التي تصيب الجسد، إلى حد يصل إلى الإغماء، والملاحظ أن قصيدة القصيبي تتقاطع مع المتنبي لجانب حديثها عن الترحال والغربة، فالرجل حين يعتلق بزمام راحلته، ويمنح وجهه للهجير ولفح الصحراء معرّض لصنوف من المتاعب والأذى، وقد ينتهي إلى قوم متعبين ينقل إليهم عدوى المرض، أو يأخذها عنهم، لذا فإن القصائد التي تتحدث عن الحمى والمرض في التراث العربي يركن كثير منها إلى تأكيد مسألة العدوى، وتأثر الفرد بالمحيطين من حوله. وهي الأبيات ذاتها تصوّر ما يُطلق عليه حالة اليأس من الحياة، حتى وإن تقاطعت مع الغزل وانشراح الحب الذي يوصف بأنه قمة التفاؤل والانطلاق.3للشاعر أحمد علي باكثير تجربة مع الحمى كتب عنها كثيرون، وهي من تلك القصائد التي تتغلغل في الأعماق واصفة الألم، وحال الناس الذين لاهم لهم سوى جمع المال، يقول:أرى حولي أناسا ليس فيهمشعورٌ لا ولا لهمُ قلوبُيرون المال أنفس كل شيءوفي الإحسان ليس لهم نصيبُأصبحت لا أستطيع العير أركبهوقد أكون وعاتي الخيل مركوبىوأصبح المشي مطلوبي وكنت وماقوى المدافع إلا دون مطلوبيكأنما مسني عما بليت بهسقم ابن متّى تلاه ضر أيوبى.ويلجأ الشعراء في مثل هذا النوع من القصائد إلى حالة مقارنة بين ما كان عليه الحال، قبل المرض وبعده، لذا فإن ابن كثير يصف جانبا من ذلك، فبعد أن هدّه المرض أصبح صعبا عليه امتطاء العير، في حين كان يصول ويجول على الخيل الجامحة.