The Golden Cage مرآة الثورة الإيرانية
تستهل شيرين عبادي كتابها The Golden Cage بعبارة للمفكر الإيراني الغني عن التعريف علي شريعتي: «إن كنت لا تستطيع رفع الظلم، فأخبر عنه الجميع على الأقل». لطالما كانت شيرين عبادي مميزة. فهي محامية إيرانية تُدافع عن حقوق الإنسان، خصوصاً الأطفال والنساء والسجناء السياسيين. نالت عام 2003 جائزة نوبل للسلام، فكانت أول امرأة مسلمة وأول شخصية إيرانية تُمنح هذه الجائزة.
في كتابها The Golden Cage: Three Brothers, Three Choices, One Destiny (القفص الذهبي: ثلاثة إخوة، ثلاثة خيارات، مصير واحد) تروي عبادي قصة الثورة الإيرانية من خلال حياة ثلاثة إخوة: الأول من أتباع الشاه والثاني من أنصار مبدأ الفوضى والثالث إسلامي ثوري. تنجح عبادي في روايتها هذه في سرد الأحداث التاريخية التي مرّت بها إيران وتداعياتها على حاضرنا. إليكم مقتطفاً منها: قلتُ لسائقي: «انتظر هنا. سأعود قريباً». تفقدتُ مرآة الرؤية الخلفية للتأكد من أن شعري كان لا يزال مغطّى بالوشاح، لكن ما كنتُ بحاجة إلى فعل ذلك: وسط ذلك الطقس الحار، كان النسيج ملتصقاً بجبيني. فور خروجي من السيارة، هبّ هواء الصحراء الحار في وجهي وكأنه هواء فرن ساخن. كنا في منتصف شهر أغسطس وكانت الرطوبة لا تُحتمَل. خلال جزء من الثانية، أردتُ أن أعود إلى حيث مكيّف الهواء. لكني لم أكن أستطيع فعل ذلك، بل كان من السخافة أن أفكر بالأمر. رفعتُ شريط حقيبة اليد على كتفي ومشيتُ بخطوات سريعة. مررتُ بالقرب من المقابر الهندية والبهائية القديمة واقتربت من حشد الناس. بالنسبة إلى هؤلاء الناس، لم يكن المشهد غريباً: مساحة عشوائية من العشب والتراب من دون وجود أي سياج في الجوار. لقد دُفنت هنا جثث آلاف المعارضين السياسيين الذين سُحقوا تحت أقدام قوات «الباسدران» وقد تكدّست الجثث فوق بعضها. حُرم هؤلاء من جنازة لائقة ولم يُدفَنوا في مقابر المسلمين. لقد كانوا معادين للحرس الثوري. «هم لا يستحقون أي مراسم تأبين. إذا كنتم محظوظين، قد يخبرونكم بمكان الجثة». هذا ما كان يسمعه أفراد العائلات. تم اكتشاف القتلى بعد أسابيع، أو حتى أشهر، من الصمت والشكوك والغياب. هذا ما حصل لجواد. ذهبتُ إلى هناك لأجله مع أنني لم أعلم طوال سنوات السبب الذي جعله عزيزاً على قلبي. ينطبق هذا الأمر عليه وعلى بقية جيلنا المدمّر الذي تمزق بفعل المعارك الإيديولوجية على روح بلادي طوال نصف قرن. لقد تحولت بلاد فارس النبيلة إلى إيران التعيسة! في ذلك اليوم الخانق، ذهبتُ إلى ذلك المكان من أجل جواد بعد أن فرّقني عنه الزمن. كنتُ هناك أيضاً لأجل باري وعباس وعلي وجميع الأشخاص الآخرين العزيزين على قلبي. كنتُ هناك للتعويض عن سنوات الجهل والابتعاد ولمحو كلمات الكره وترميم كلمات أخرى تعكس حقيقة صداقاتنا القديمة. انضممتُ إلى مجموعة كبيرة من النساء. كنّ يمشين ببطء ويأتين من جميع الاتجاهات وكأنهن يشاركن في حركة نزوح (كانت الأمهات والزوجات والشقيقات يحملن القرنفل أو وروداً حمراء). كانت تعابير وجوههنّ متجهّمة ولكن من دون دموع. عندما يموت الناس بالطريقة التي مات فيها أبناؤهنّ فلا يمكن ممارسة طقوس الحداد فعلياً إلا في المنزل. تعرّفتُ إلى امرأة كان يدعوها الجميع «الأم»، وهي كانت المتحدثة التي تعبّر عن أحزان الجميع. شقّت طريقها وسط الحشود وكان شعرها الأبيض واضحاً من تحت الوشاح. كان عمرها يناهز السبعين عاماً. كان ابنها مهندساً درس في الولايات المتحدة وقد دُفن في مكانٍ ما من منطقة خاوران. رفعت «الأم» ذراعها ببطء وبدأت تتكلم. توقف صوت الهمسات فوراً. قالت «الأم»: «نحن هنا اليوم لنتذكر. نعلم أن الدم لا يستطيع غسل الدم. نحن نساء ولسنا مقاتلين ضمن عصابات. نحن زوجات وأمهات وبنات وشقيقات وقد شهدنا ما يكفي من أعمال العنف حتى الآن. لن يساهم قتل القتلة في عودة الضحايا إلى الحياة». «اصمتوا يا كفّار! لم يكونوا ضحايا بل كانوا خونة معادين للحرس الثوري وهم يستحقون الموت!»، ترددت أصداء هذا الصوت في الجو. بحثتُ عن المرأة التي تكلمت. كانت ترتدي نقاباً أسود يغطي جسدها كله من رأسها حتى أخمص قدميها. أحاط بنا رجال ونساء من القوات التي هاجمت التظاهرات العامة وفرّقتها، وبدا وكأنها كانت مستعدة للتحرك مجدداً. تلاصقنا لحماية أنفسنا وكانت أكتافنا متراصة وما كنا نعلم ما يجب فعله. تذكرتُ ما قالته والدتي عندما غادرتُ المنزل: «شيرين لا تذهبي. الوضع خطير». خطر ببالي أنها قد تكون في السنة المقبلة واحدة من النساء الواقفات على الرمال الدامية في خاوران لإحياء ذكرى ابنتها. قامت القوات برفع السلاسل والخناجر في الهواء وكأنها تلقّت أمراً صامتاً. كانت تستعد للهجوم. ثم ساد صمت عميق وفاحت رائحة خوفنا في الأجواء. أطلقت القوات هجومها في محيط التجمّع، فتفرّقت الحشود. ركضت النساء في جميع الاتجاهات. عمد أصحاب «اللباس الشخصي» (عملاء النظام الذين يرتدون لباساً مدنياً) إلى اعتقال الرجال القلائل الذين شاركوا في التجمع فوراً. فضربوهم على ظهرهم بالعصي وصرخوا: «يجب أن يكون هذا الهجوم كفيلاً بإنهاء تظاهراتكم الخائنة. أبناؤكم لا يستحقون أي مراسم تأبين. لقد كانوا أعداء الله وإيران. كان يجب أن تفكروا بذلك حين كانت الفرصة سانحة. كان يجب أن تعلّموهم القيم الصحيحة. أنتم مسؤولون عن موتهم!». جرّت قوات «اللباس الشخصي» ضحاياها شبه المغمى عليهم فرُسمت على الرمال خطوط رفيعة من الدماء. كذلك، انبطحت النساء ذات الشعر الأبيض على الأرض. نجحت إحدى النساء اللواتي يرتدين النقاب في ضرب «الأم» على جبينها بحجر. عند رؤية الدم، ثارت حفيظة «الأم» وركضت بشكل هستيري مع أنها كانت مصابة. بدا وكأن جميع حجارة الصحراء ما كانت تستطيع ردعها. حذت نساء أخريات حذوها. كان يستحيل وقف «الأم». علا صوت الحجارة التي تم رشقها عليها. فصرخت «جبناء!» وهي تنظر أمامها مباشرةً. لم أتمكن شخصياً من التقدم ولو لخطوة. شعرتُ بالشلل أمام مشهد العنف السريالي. دفعتني امرأة أخرى جانباً. لن أعرف مطلقاً ما إذا كانت تريد مساعدتي أو أنها كانت تحاول إزاحتي من طريقها. لكنّ تلك الدفعة كانت كفيلة بإرجاعي إلى الواقع. بدأتُ أركض وأتبع نساء لا أعرفهنّ. وسط تلك المعمعة، رأيتُ وجوه نساء ضعيفات وسمعتُ أصوات السلاسل المعدنية وشممتُ رائحة الدم. كانت «الأم» تصرخ في تلك اللحظات: «جبناء!». لكن سرعان ما تلاشى صوتها بسبب بُعد المسافة. تعثرتُ وسقطتُ ثم نهضتُ. كنت أتوقع سحقي أو دهسي في أي لحظة. أو كنت أتوقع السقوط تحت أقدام الحشود التي يصعب التمييز فيها بين الأصدقاء والأعداء. كاد قلبي يقفز من صدري وكان صوت نبضاته يتردد في عقلي ويشوّش جميع أفكاري. كنت أركض وألهث. وإذا برجلٍ يمسك ذراعي فركلته من دون وعي. لكنه قال لي: «سيدة عبادي؟ هذا أنا». كان الرجل سائقي. سحبني إلى السيارة وقاد بسرعة فائقة. كنتُ أشعر بالإرهاق فجفّفتُ العرق الذي كان يزعج عيني وحاولت تهدئة نفسي. شعرتُ بالبرد للمرة الأولى، فنظرتُ نحو الأسفل وأدركتُ أنني فقدت وشاحي حين كنت أهرب. رفعتُ إحدى قدماي نحو ركبتي فكان أخمص قدمي مخدوشاً وينزف. شاهدتُ سقوط قطرة دم سميكة على السجادة وشعرتُ بألم الجروح في تلك اللحظة فحسب. صداقات قديمة أول ما أتذكره هو رائحة الشاي داخل إبريق وُضع فوق موقدٍ ما كنتُ طويلة بما يكفي لأبلغه. ثم أتذكر أن الماء كانت تغلي في إبريق الشاي العريض وكانت يدا سيمين تُخرج سريعاً الإبريق الأصغر من الخزانة فوق رأسي وتقول: « تحركي يا شيرين. ستجعلينني أوقع شيئاً». امتدّت أيادٍ أخرى لتدفعني جانباً كي أبتعد بينما فتحت سيمين علبة الشاي (كانت تستعمل الأطراف فقط وهي أفضل جزء من النبتة). وضعت بضع ملاعق صغيرة قبل سكب الماء المغلية. راقبتُ ما يحصل بذهول فيما كانت رائحة النقيع العَطِر تنتشر في الجو. وضعت سيمين الإبريق الصغير بحذر فوق الإبريق الأكبر حجماً الذي كان نصفه مليئاً بالماء. كانت النار مشتعلة تحته. كانت باري تقول لي دوماً: «يجب ألا تدعيه يغلي». كانت يدا سيمين وصوت باري ورائحة الشاي وجدران المطبخ البيضاء بلون الحليب أشبه بشرنقة دافئة تغلّف ذكريات طفولتي. لقد نشأتُ مع باري وأشقائها. كانت والدتانا صديقتين مقربتين منذ أن كانتا في الخامسة أو السادسة من العمر. في تلك الفترة، كانتا تعيشان في منطقة حمدان، وهي مدينة في شمال غرب إيران حملت سابقاً اسم «اكباتانا»، عاصمة البلد. كانت تلك الصداقة تعود إلى أيام الطفولة وقد بدأت نتيجة قبضة من حلويات اللوز، لكنها صمدت على رغم السنوات المضطربة خلال مراحل الطفولة والمراهقة والزواج والانتقال إلى أماكن أخرى. فضلاً عن ذلك، تزوجت سيمين في سن صغيرة جداً من حسين (تاجر في البازار في طهران)، لكنهما بقيتا على تواصل. تبادلت المرأتان الرسائل على رغم بُعد المسافات، وكانت تشمل يوميات شخصية وتكشف أسراراً مشتركة وتذكر وصفات طعام وتستعيد الذكريات. عام 1948، عندما انتقلت والدتي (هي متزوجة الآن ولديها أولاد) إلى العاصمة، ساهمت الصداقة بين المرأتين، كما يحدث في أغلب الحالات، في توثيق الرابط بين العائلتين. كان والدي محمد علي يشعر بالراحة حين يمضي الوقت مع حسين الذي كان لا يكف عن المزاح والضحك لأبسط الأسباب. كانا يتبنيان فلسفتين متعارضتين في الحياة: كان والدي رجلاً متطلباً ومناضلاً بطبيعته، وكان يعمل في مجال القانون بطريقة متفانية وجدية لدرجة أن البعض كان يعتبره بارداً، لكنه كان ببساطة يعشق العدالة. لقد ربى كل واحد من أبنائه الأربعة (صبي وثلاث بنات) بناءً على مبدأ المساواة لأنه كان مقتنعاً بأن مبادئ التربية المتساوية واحترام الآخرين يجب أن تبدأ من العائلة. كان متمسكاً بِمُثل قوية وكان يطبقها بصرامة وقد رسخها فينا جميعاً لأنه كان مقتنعاً بأن الجميع يحق لهم المشاركة في الحياة المدنية والسياسية في البلاد مهما كان الثمن. أما حسين، فكان أكثر تساهلاً مع أنه كان في الوقت نفسه رجلاً صادقاً وصالحاً. ورث متجر سجاد من والده وكان مقره في وسط بازار البلدة وكان يديره مع شقيقه الأصغر نادر. كانت الأعمال جيدة بما يكفي كي توفر لهما راتباً محترماً ولكنها لم تكن كافية لجعلهما ثريين. لو أنهما كانا يتمتعان بروح المغامرة، لتمكّنا من اللحاق بأصحاب المتاجر الإيرانيين الآخرين إلى قطاع تجارة التصدير في اللحظة المناسبة (كان الطلب على السلع الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة مرتفعاً جداً آنذاك). لكن كان حسين يحب حياته ويعتبر أوقات فراغه مقدسة. تماماً مثل والدي، سعى إلى تجنب التفريق بين أبنائه، سواء في مجال التربية أو في الطريقة التي اعتمدها لتحضيرهم لمواجهة الحياة في مرحلة الرشد. كان يتمنى طبعاً أن يخلفه الشبّان لإدارة المتجر وكان متأكداً من أن باري ستتزوج وتنجب الأطفال. حاول حسين تلقينهم قيمة التسامح. كان يعرف أشخاصاً كثيرين وكان قد سمع قصصاً سيئة للغاية. لكنه ما كان يستطيع تقبّل خطيئة تراجع الغنى الفكري. أكثر ما كان يحبه هو التواجد وسط أشخاص آخرين وكان يجسّد هذا الشغف في منزله أيضاً. كان فخوراً بضيافته وبقدرته على إقامة الصداقات بسهولة مع أي نوع من الأشخاص، فكان يدعوهم إلى العشاء ويحب سماع قصص جديدة دوماً. كان الأمر أشبه بالسفر بالنسبة إليه، وكأنه يشم رائحة بلدان بعيدة لم يزرها يوماً. وكانت سيمين تشجعه على ذلك، فكانت تطبخ كميات مفرطة من الطعام، حتى لو كانت لا تنتظر أي ضيوف، لأنها تعلم أن زوجها سيحضر على الأرجح مع ضيف معين سيحصل على فرصة تذوّق طعامها. ارتبط والدي وحسين، على رغم اختلافاتهما، بعلاقة صداقة هادئة. خلال الأمسيات الطويلة التي كنا نمضيها في منزل تاجر البازار، كانا يحبان الجلوس بعد العشاء على الوسائد المطرّزة المنخفضة تحت نافذة إحدى زوايا الغرفة. كانت الزوجتان تلازمان المطبخ وكان يُمنع على الأولاد مقاطعة أحاديث الوالدين التي كانت تتراوح بين الحياة الشخصية والأفكار الفلسفية. كانا يتحدثان عن السياسة والتضخم وأسعار الجملة والقانون التجاري الذي كان والدي خبيراً فيه. لكن عند التفكير بالأمر الآن، أدرك أن تلك الأحاديث كانت مجرد مرحلة تمهيدية لإطالة فترة الترقب وزيادة متعة أفضل وسيلة ترفيهية بالنسبة إليهما في أوقات الفراغ: لعبة الطاولة. بعد إنهاء حديثهما الصغير، كان حسين يسحب علبة خشبية رائعة صُممت خصيصاً للعبة الطاولة. كان والده قد اقتناها حين كان تاجراً مبتدئاً في شبابه. كانت العلبة تضم تصميم لوحة شطرنج من الخارج وعلامات محفورة في الخشب من الداخل حيث توضع القطع الملونة طبيعياً وتلك المطلية بلون داكن. كان حسين يفتح العلبة بحماس شديد. كانت العلبة تنقسم إلى نصفين وكانت القطع المصقولة بعناية تلمع كالجواهر. كانت تلك الطقوس التي ترافق افتتاح جولة اللعب تدفع والدي إلى التفوه بعبارة الإعجاب نفسها في كل مرة: «لا نرى دائماً أغراضاً جميلة بهذا الشكل!». في تلك المرحلة فقط، كانا يغوصان في سلسلة لامتناهية من جولات اللعب. طوال ساعات، كان يمكن سماع صوت النرد والقطع التي تصطدم بالخشب أثناء تنقّلها على اللوح، فضلاً عن صوت الرجلين وهما يتمازحان فيحاول كل واحد منهما إحباط معنويات الآخر. حين يتردد حسين في تحريك أي قطعة، كان والدي يقول: «إذا أردتَ وقتاً إضافياً للتفكير بخطوتك، يمكنني الذهاب لتحضير كوب آخر من الشاي». فيجيبه حسين: «يبدو أنك تبحث عن عذر للاستسلام لأنك لا تملك أي فرصة للفوز». بعد تلك السنوات كلها، ما زلتُ أتذكر تلك التصرفات المألوفة التي تطبع أسلوبهما في اللعب وتثبت قوة صداقتهما. كما أنني أحنّ إلى تلك الفترة التي كانت فيها تلك المشاحنات المرحة تشكل الخلافات الوحيدة التي يمكن سماعها بين جدران منزلهم السعيد. عباس وجواد سرعان ما تُوّج زواج حسين وسيمين بوصول ابنهما عباس. منذ البداية، كان حيوياً وصحته جيدة. عند ولادته، كان وزنه أكثر من أربعة كيلوغرامات، وكان يركل ويصرخ طوال ساعات، وكان يبكي بصوت عال يفوق جميع الأطفال الآخرين، وكان شعره داكناً وسميكاً على عكس معظم المواليد الجدد. سرعان ما اتضحت سمرته في مرحلة الشباب: للتماشي مع شعره، ترك لحيته تنمو وكانت تترك آثاراً مائلة إلى اللون الأزرق على بشرته السمراء، وكانت لحيته تصبح متشابكة إذا تركها من دون حلاقة لبضعة أيام. كان طويلاً وقوياً (أو حتى قاسياً) وكانت ملامح وجهه تبدو جدية دوماً لأن بشرته كانت بالغة السمرة على الأرجح. كان حسين ينظر إليه بكل فخر وكان يعشق ابنه البكر، وكان عباس يبادله العاطفة نفسها ويبذل قصارى جهده للتشبه بوالده. فقد ورث عنه الاستقامة وحبه العميق للعائلة ولكنه لم يأخذ منه المرح أو حس الفكاهة. أتذكر أنه كان يبدو شخصاً مختلفاً في المناسبات القليلة التي تظهر فيها ابتسامة خجولة على وجهه، فكانت ملامحه القاسية تلين بشكل غير متوقع. لم يعبّر عباس يوماً عن رغبته بأن يكون له أشقاء وشقيقات كي يعتني بهم ويعلّمهم. واجهت العائلة تجارب عدة من الإجهاض غير الإرادي طوال سبع سنوات وقامت برحلات حج متعددة قبل ولادة الابنة الأولى باري التي أصبحت واحدة من أقرب صديقاتي. ثم في عام 1950، وُلد الابن المنتظر الثاني جواد الذي اعتبرته والدتي دوماً أجمل طفل رأته في حياتها. ولكنه كان أكثر الأطفال عناداً أيضاً بحسب رأي سيمين. لقد حملت جواد في أحشائها بعد مرور أسبوعين على موعد الولادة الأصلي وقد بدا أنه لا يريد الخروج. لكن حين حلّت تلك اللحظة أخيراً، فاز بقلبها حين رأت وجنتيه الورديتين الممتلئتين وخصلة شعره الخفيفة على جبينه. كان جواد حيوياً ومستقلاً منذ الطفولة وكان فضوله كبيراً ولم يكن يحبذ اللعب مع أطفال آخرين لأنه كان يملّ من ألعابهم. في عمر الرابعة فقط، حين كان حسين يجلس على كرسيه لقراءة الصحيفة، كان جواد يتعلّق بكتفيه ويصغي إلى صوت والده وهو يقرأ كلمات المقالات. فاكتشف فوراً الآلية الخفية وراء تركيب الحروف ونجح خلال بضع سنوات في ترداد الكلمات على مسامع والده قبل أن يتسنى لحسين أن يقرأها بنفسه. [...] في إحدى الأمسيات، كنت مع باري في غرفتها نتحدث عن مواضيع عصرية مثل الموضة الباريسية الجديدة، فقاطعنا صوت صرخة صادرة من غرفة الجلوس. هرعنا إلى المكان ووجدنا جواد في منتهى السعادة وهو يقف إلى جانب لعبة الطاولة. كان يكفي أن ألقي نظرة على مواقع قطع اللعب وعلى ابتسامة والدي كي أفهم فوراً أن الصبي فاز. في طريقنا إلى المنزل، كنت لا أصدق ما حصل. فقلتُ لوالدي: «جواد كان سعيداً جداً. كان لطيفاً منك أن تدعه يربح»، فرمقني والدي بنظرة غريبة وقال لي بعد لحظة من التردد: «أنا لم أدعه يربح يا شيرين». ثم أضاف بصوت يوحي بـأنه كان يكلم نفسه: «ذلك الصبي سيحقق الكثير... إذا تمكن من كبح طبيعته المتمردة وإذا كان في العالم عدل، سيحقق الكثير حتماً». بعد مرور سنوات عدة، أتذكر تلك الليلة الحارة القديمة التي نجح خلالها جواد في الجمع بين الحظ والاستراتيجية لتحقيق الفوز. لم يدرك حينها أنه لن يتمكن من التغلب بالسهولة نفسها على التحديات التي سيواجهها لاحقاً في حياته.