لماذا خسر الإسلام السياسي في ليبيا؟

نشر في 30-07-2012
آخر تحديث 30-07-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري مصر ذات الماضي الليبرالي والتراث الديمقراطي العريق تنحاز إلى الماضي وتختار "الإخوان" لحكمها، وليبيا التي لا ماضي ليبرالياً لها، وقد حرمت من الديمقراطية طويلاً، إذ كان آخر عهدها بالانتخابات قبل 51 عاماً في عهد الملك السنوسي، تنحاز إلى المستقبل وتختار تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل لحكمها! هذه إحدى المفارقات السياسية في دنيا العرب، ففي أول انتخابات تعددية بعد نصف قرن لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام، تأتي نتائج الانتخابات الليبية على خلاف توقعات معظم المحللين الذين راهنوا على فوز الإسلاميين؛ على غرار نتائج الانتخابات لدى الجارتين اللصيقتين: مصر وتونس، لأن المزاج العام لشعوب دول الربيع العربي مع الإسلاميين.  نتائج الانتخابات الليبية عدلت البوصلة السياسية، وصححت خط سير الربيع العربي، كما يقول الكاتب الإماراتي محمد الحمادي، وأثبتت أن الإسلاميين ليسوا وحدهم في الميدان، وأن هذا الربيع يسير ويتنقل ويتطور بسرعة، ولا أحد يعرف ما الذي ينتجه أو من سيحكم، ولا كم يبقى من وصل إلى كرسي الحكم. كما أعادت هذه الانتخابات الثقة لأنصار الدولة المدنية الديمقراطية، مؤكدة أنه ليس كل شعوب دول الربيع العربي تتوق إلى الحكم الإسلامي تحت لواء الإخوان المسلمين، طبقاً للكاتب د. شملان العيسى، لقد أثبت الشعب الليبي في هذه الانتخابات أنه شعب على درجة عالية من الوعي والنضج، وليس كما صور نظام القذافي بأنه شعب يساق كالقطيع.  فهذه الانتخابات التي أقبل عليها الشعب الليبي وبخاصة الشباب وبنسبة كاسحة 60%، وباقتدار سياسي رائع وثقه عالية في النفس، تعبير عن إرادة غلابة لشعب يريد النهوض والانطلاق والتحرر من ركامات هائلة من التخلف والفساد والاستبداد والغوغائية، هذا الإقبال تعبير خلاق عن نزعة الشعب الليبي إلى العيش الطبيعي كبقية شعوب العالم بعد ظلام طويل.إنه التوق إلى المستقبل الزاهر والشوق العارم إلى دولة ليبيا الجديدة، دولة المؤسسات والدستور الديمقراطي وحكم القانون والعدل والعقلانية، والعيش بسلام مع الذات ومع العالم، دولة الاستقرار والبناء والتنمية بعد سلسلة المغامرات الجنونية من حاكم ظن أنه ظل الله تعالى في الأرض، وفرض كتابه الأخضر على الشعب الليبي دستوراً مقدساً، وصادر الحريات وقمع المعارضين وطاردهم إلى أقاصي الأرض يصفيهم، وطغى وبغى وعاث فساداً كبيراً في الأرض.  أقبل هذا الشعب على هذه الانتخابات تملؤه مشاعر الحماسة والفخر والفرح، واصطف في طوابير طويلة مزهواً وهو يمارس حريته في صنع مستقبل بلده، ولعل من أهم التساؤلات التي أفرزتها نتائج هذه الانتخابات، وتناولها العديد من الكتّاب بالدراسة والتحليل هي: لماذا أخفق التيار الإسلامي السياسي وبالخصوص "الإخوان" في تصدر الانتخابات بينما اكتسح تحالف القوى الوطنية الانتخابات، وفاز بها فوزاً مؤزراً؟ وما سر هذا الاستثناء الليبي بين شعوب دول الربيع العربي؟  تتلخص تحليلات الباحثين في العديد من الإجابات، من أبرزها ما يأتي: الأولى: أن الشعب الليبي أفاد من دروس تجربتي الانتخابات في تونس ومصر، فأصبح أكثر وعياً وأشد حرصاً على حسن الاختيار، ولن يشاء أن يكرر نفس التجربتين اللتين أوصلتا إسلاميين إلى الحكم، فهيمنوا على مؤسسات الدولة، واستحوذوا على سلطاتها، كما لم يقدموا ما وعدوا به الجماهير، ولم يثبتوا نجاحاً يذكر في الحكم حتى اليوم.  الثانية: أن الليبيين سئموا استغلال الشعارات الدينية والقومية على امتداد عهد الدكتاتور السابق الذي وظف الدين والعروبة لاستمرار نظامه القمعي، وأصبح هذا الشعب يتطلع إلى دولة مدنية وحكم القانون، وتنمية البلد بأكثر من اهتمامه بتطبيق الشريعة والشعارات الدينية البراقة التي انشغل الإسلاميون بترويجها. وعوداً إلى الشعب فهو شعب متدين بفطرته حريص على تطبيق تعاليم دينه والالتزام بمظاهره، فليسوا بحاجة إلى من يعهدهم بتطبيق الشريعة. وكما يقول يوسف الديني: لا يوجد في ليبيا موقف مضاد من الدين، أو حتى من ظواهر اجتماعية علمانية يمكن أن يتكئ عليها الإسلاميون الخاسرون في معركة الانتخابات، فمشروع الأسلمة لا يعدو أن يكون كما يقال: بيع للماء في حارة السقايين، كما لا يعاني الشعب الليبي أزمة هوية، الشعب الليبي على درجة عالية من الوعي في التمييز والفصل بين الالتزام بالدين ودعم تيارات الإسلام السياسي الساعية إلى الحكم باسم الدين، الالتزام الديني أمر والتدين السياسي أمر آخر.  الثالثة: قد أساء إلى "الإخوان" تعاونهم في السنوات الأخيرة مع سيف الإسلام الذي أطلق سراح 150 إسلامياً بداية من عام 2003، وعرض عليهم مناصب في المؤسسات ووسائل الإعلام، وذلك في سياق تأييد "الإخوان" له في جهوده لخلافة والده في الحكم، هذا الماضي المشوب بالريبة كان عاملاً قوياً في عدم صعود الإسلاميين، وكما يقول أحد المحللين المتعاطفين معهم: إن أي أسماء سياسية كانت مرتبطة بالنظام السابق يتم حرقها سياسياً على الفور من قبل الناخبين. الرابعة: التحالف الوطني الذي يتشكل من الليبيرالين والعلمانيين والقوميين والوطنيين والإسلاميين المعتدلين، استطاع أن يخاطب الشعب في الأمور التي تشغله بالدرجة الأولى وتشكل أولوياته، وهي بالتحديد: الصحة والتعليم والخدمات وتحسين الطرق والبنية التحتية ورفع مستوى المعيشة للفرد الليبي وكل أمور التنمية والاقتصاد والأمن والاستقرار. المجتمع الليبي وكما يقول تركي الدخيل: مل من الخطابات الشمولية والخدع السياسية، فهو يريد أن يتواصل مع العصر، وأن يدخل في تحديات المعرفة والتنمية، مل الليبيون من الخطب الطويلة وخطابات الصمود، إنهم ببساطة يريدون الحياة، وهذا ما نجح فيه قادة قوى التحالف الوطني، حيث خاطبوا الشعب في اهتماماته الأساسية (التنمية والأمن).  الخامسة: يضيف عادل الطريفي سببين آخرين لخسارة الإسلاميين فيقول: إن الأحزاب الإسلامية حديثة عهد للنظام الحزبي وغير متمكنة انتخابياً في بلد حظرت فيه الأحزاب لأكثر من 60 عاماً، بالإضافة إلى رده فعل الأكثرية الصامتة من الليبيين الذين سئموا المظاهر المسلحة خلال الشهور الماضية، ولأجل ذلك خرجوا للتعبير عن رأيهم بزخم انتخابي كبير لأجل الاستقرار الذي يعبر عنه تحالف القوى الوطنية. السادسة: حظي التحالف الوطني بشخصية قيادية كاريزمية كبيرة هو محمود جبريل الذي استطاع توحيد القوى الوطنية المختلفة تحت قيادته، وهو ما لم يحصل في تونس ومصر، جبريل يعتبره الليبيون يداً أمينة لإعادة إعمار الاقتصاد الذي عانى الركود طويلاً في عهد القذافي، كما أنه يحظى بثقة الليبيين، وهو رهانهم في بناء الدولة الحديثة باعتباره رجل المرحلة.  ينظر الليبيون إلى جبريل باعتباره معتدلاً وليس أيديولوجياً، وهو يرفض أن يوصف بأنه ليبرالي أو علماني في مجتمع متدين لا تغيب فيه المبادئ الإسلامية عن أي نقاش سياسي، وقد صرح مؤخراً بأن العصر الحديث هو عصر المعرفة، وأن المجتمعات اليوم تبنى بالمعرفة وليس بالأيديولوجيا، درس في مصر وفي أميركا، وتخصص في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، انشق على القذافي وانضم إلى الثورة، وكان له دور بارز في ملف العلاقات الخارجية للثورة. لقد عانى هذا الشعب طويلاً لكنه شعب أبي وجسور، وقد آن له أن ينعم بالحياة الكريمة، التحديات أمامه كبيرة وشاقة لكن الآمال كبيرة أيضاً، وهو قادر على مواجهة كل هذه التحديات والمصاعب وصولاً إلى إقامة الدولة الحديثة وتحقيق المستقبل الزاهر.  * كاتب قطري
back to top