«في المسيرة نحو السعادة»... لغة تجعل مياهَنا مَرايا سماء
بقلم المطران كيغام خاتشريان
من الناس من رأى السعادة فكرة عصيّة على التجسّد، وقد يكون أجمل ما فيها أنّها ظلّ من ظلال الحلم الكثيرة. ومنهم من قال بوجودها، وأعلن أنّه حملها طائرًا وديعًا على كتفه، أمّا حبّة القمح التي تغري هذا الطائر بالحطّ على الكتف فقد تكون المال، أو الصحّة، أو العائلة، أو الوطن، أو الله...
بأناقة المضمون والشّكل، وفي زمن جفاف المعنى وإقامة الحزن في العمود الفقري للكلمة، تصدر دار المراد «في المسيرة نحو السعادة» لسيادة المطران كيغام خاتشريان، وهي بإنجازها هذا تجعلنا أكثر إيمانًا بأنّ لكلّ ليل شمعة تعرف السماء جيّدًا إلى أيّ يد توصلها، وللمطران خاتشريان أكثر من شمعة تركَتْ على ذاكرتنا وشمًا سماويًّا.
من الناس من رأى السعادة فكرة عصيّة على التجسّد، وقد يكون أجمل ما فيها أنّها ظلّ من ظلال الحلم الكثيرة. ومنهم من قال بوجودها، وأعلن أنّه حملها طائرًا وديعًا على كتفه، أمّا حبّة القمح التي تغري هذا الطائر بالحطّ على الكتف فقد تكون المال، أو الصحّة، أو العائلة، أو الوطن، أو الله...
بأناقة المضمون والشّكل، وفي زمن جفاف المعنى وإقامة الحزن في العمود الفقري للكلمة، تصدر دار المراد «في المسيرة نحو السعادة» لسيادة المطران كيغام خاتشريان، وهي بإنجازها هذا تجعلنا أكثر إيمانًا بأنّ لكلّ ليل شمعة تعرف السماء جيّدًا إلى أيّ يد توصلها، وللمطران خاتشريان أكثر من شمعة تركَتْ على ذاكرتنا وشمًا سماويًّا.
تختصر مقدّمة «في المسيرة نحو السعادة» للمطران مارون ناصر الجميّل روحيّة النّصوص الفاتحة أشرعتها قِبلة الأزرق العالي حيث رحيق الله يشكّل السماء بكثافته. ويقول الجميّل: «في تأمّلات المطران خاتشريان أبعاد صوفيّة كثيرة... وصدى لهموم المؤمن والمقهور، ولمن اجتاحه القلق والحقد والفراغ»... ويرى فيها خارطة طريق لا تخذل صاحبها في إيصاله إلى حضرة الجلال الإلهيّ حيث السعادة قفير لا يجفّ، قفير صنعه بعناية فائقة نحل الرجاء والإيمان والمحبّة.يعرف المطران كيغام كيف يرتقي بالإنسان، كلّ إنسان، ليجعله غاية غايات الألوهة، كما بدا واضحًا من الـ{تمهيد» للمسيرة العظيمة: «هذا هو هدف الله، أن يعيش الإنسان حرًّا سعيدًا، يمجّد الخالق ويسعى إلى كمال ذاته». إلاّ أنّ الحريّة والسعادة لا يضمّهما صدر إنسان يعيش خارج ذاته، فلا بدّ من عودتنا إلى ذاتنا لنغسل عراءها بعطر الضمير ونلفّ كتفيها بعباءة الإرادة لنتمكّن من تسلّق شجرة السعادة بثقة مَنْ يرى ثمار الصّيف في شجره بينما هو عارٍ شتاءً، والسعادة عند المطران السعيد هي واجب مقدّس، وكأنّ كلّ كآبة ليس فيها شيء من ألم الصّلب خطيئة: «إنّ السعادة واجب ينبغي على كلّ منّا تحقيقه».
يعود المطران كيغام إلى قصّة الخلق ليثبت أنّ سعادة الله لم تكتمل إلاّ بالإنسان، الذي لم يحسن ردّ التحيّة بمثلها، إنّما هو بمدّ يده إلى التفّاحة كان يؤسّس للبُعد، باحثًا عن حرّيّة تبدأ بالوهم ولا يمكن أن تنتهي إلاّ به.عبور إلى السعادةوبما أنّ السعادة سراب في البُعد عن مصدرها لا بدّ من العبور إليها على جسر تعقد الصلاة قناطره، ويكون التأمّل الملاك الحارس لعابريه. ولمّا كان الله معطيًا كلّ إنسان نصيبه من وزنات فما على الإنسان إلاّ استثمارها بعرق الجبين والقلب والعقل، مجترحًا سعادته وسعادة الآخر بنشاطات إنسانيّة مؤمنة تكون الأرض مساحتها، والسماء مرآتها، ومحبّة الله ذاكرتها. وإذا كان من توق إلى «الأفضل» بمعنى الكمال، فإنّ نسيم الخيبة سيفترس أشرعة الرحلة، وليس سوى الواقعيّة طريقًا إلى السلام والطمأنينة: «يمكنك أن تعرف السعادة على الأرض بالسعي إلى ما هو أفضل بدلاً من السعي إلى الأفضل، لأنّ «الأفضل» في المطلق أمر من المحال بلوغه».ولا ينسى خاتشريان الخطأة، فهم المدعوون إلى الكنيسة قبل أبرارها، لأنّ المسيح آلمه الخروف الضالّ، ومطر الحجارة على الزانية، فأبناء الخطيئة هم أنفسهم أبناء الرّجاء، ولا عنصريّة في الكنيسة بين مؤمن وغير مؤمن، بين مدمن صلاة وغير مُصلٍّ. وكلّنا نستحقّ مغفرة السماء التي لا كمال لسعادتها في غياب الخراف الضالّة. وصفة روحيةولا يغيب عن المطران كيغام ضجيج العالم والنشاط الإنساني اليومي الذي يشعر المؤمن بأنّه مقصّر في أن يحيا القسم الأكبر من وقته مع الله، فيدعو، على طريقة القدّيس أوغسطينوس إلى الانسحاب نحو الذات لعلّ فيها بعضًا من السكون الذي يحترف صناعة سلام النفوس: «وهذا يعني الانتقال جسدًا وعقلاً وروحًا إلى حالة من الهدوء الداخليّ تمكنّنا من الاتّصال بالمسيح».يسير المطران كيغام على الأرض وتمتلئ أذناه وعيناه قبل أن يأذن لقلمه بالكتابة ولصوته بالبشارة. يضع إصبعه على الجرح الإنساني قبل أن يعطي «الوصفة» الروحيّة. فها هو يدلّ بقلم يتحلّى بشجاعة القدّيسين وصدقهم على كوكبنا المهدّد بالزوال نتيجة اعتناق دوله العظمى مبدأ القوّة، فالقويّ على الضعيف وليس له، والتلوّث يستوطن الهواء والماء والتراب، وبكلّ ذلك إساءة إلى معنى أن نكون بشرًا، وابتعاد عن كلّ ما يستطيع فينا أن يقول للجمال: «كن» فيكون: «مسكين هذا الإنسان الذي ينتحر على مراحل متتالية، ولا خلاص له إن لم يتحوّل من عدوّ للخليقة إلى صديق لها».وإلى فلسفة البساطة يرتاح خاتشريان، المطران الواقف منذ نعومة أظفاره وأقلامه على شرفة تضيئها ورود الفكر فلسفةً ولاهوتًا وأدبًا وحكمة. وينشد الكلام عاريًا من الضباب ومن تهمة الإلتباس والشبهة راجعًا إلى المسيح المعلّم بالأمثال وليس أكثر من رمزيّة المثل قُربًا من الحقيقة الجالسة إلى جانب البسطاء وأنقياء القلوب على بساط الحياة: «إنّ الدخول إلى عقل الإنسان وقلبه لا يتطلّب الأساليب الغامضة ولا التعابير الملتبسة، بل البساطة والوضوح». ويقودنا هذا الكلام إلى وصف جملة المطران كيغام على امتداد كتابه، فهي تحتضن البساطة على أناقة ووضوح، ويُثقلها المعنى إلى أن تصير شكلاً من أشكال الخبز يهتف له جوع الروح. ولا شكّ في أنّ الوضوح، بالمعنى الإبداعيّ، هو منتهى الصناعة بينما الغموض لا يعني أكثر من عجز صاحبه عن أن يكون واضحًا.شجاعة المسامحةوفي العودة إلى حديقة المعاني الغنيّة في الكتاب، نجد إصرارًا من المطران كيغام على شجاعة المسامحة لأنّ الحقد لا يسكن إلاّ القلوب الصغيرة في حين أن المغفرة تتّسع لها القلوب الكبيرة فقط. وقد تكون ذروة المسامحة وقت نفهم أنّ من اضطهدنا لأجل المسيح منحنا نعمة الاقتراب من الله. وما قراءة التطويبات مئات المرّات غير نسمة هواء واحدة تزور الرئتين: «قرأتها مئات المرّات ولم أكتفِ، فهل تكتفي الرئتان بنسمة هواء واحدة؟».المطران كيغام خاتشريان في جديده الرائع يقدّم تجربة حياته للكلمة هديّة تليق بها. وقد نجح في الوصول إلى مياه أعماقنا فأيقظها وساعدها لتكون مرايا سماء، بلغة يتنافس فيها الإيمان والجمال والبساطة فكانت بوصلة لنا لا تخطئ الطريق «في المسيرة نحو السعادة».