«نحب نولي مرا» هذه الجملة هي مفتاح للب جوهر رواية مسعودة بو بكر «طرشقانه»، وهي الجملة التي يصرخ بها بطل الرواية مراد الذي هو جنس ثالث متحير وضائع عن حقيقة وجوده الأصلي، فهو في خانة الميلاد ذكر، وفي إحساسه الداخلي أنثى تحاول أن تخرج من عب هذا الذكر الكائن المسخ الذي يحاول الجميع إبقاءه وحبسه في خانة الذكورة، حفاظا على اسم العائلة وتاريخ نضال والده الوطني المشرف، فلا تجد هذه الأنثى المحشورة والمختنقة بواقع مزدوج لا يمثل حقيقة كيانها الأصلي إلا أن تصرخ من حنجرة الذكر الذي يتمثلها بأنه يحب أن يصبح امرأة، هذه الصرخة التي تقلب الكيان الأسري كله ضده.

Ad

«طرشقانه» رواية جريئة وجديدة في طرح موضوعها الإنساني الذي ربما يكون مطروحا للمرة الأولى بهذا الشكل الذي يناقش المشكلة من داخل إحساس وجع بطلها ومن خارجها المتمثل في نظرة الناس وأحكامهم الظالمة غير المتفهمة لواقع هؤلاء الذين ولدوا بجنس مزدوج محير يرفضه المجتمع ويقسو عليه خاصة في عالمنا العربي.

مسعودة بوبكر أجادت وأحسنت بناء شخصية مراد الفنان الأنثى المحاصرة في كيان ذكر مكتوب في شهادة ميلادها، وبصراحة غبطتها على التقاطها وصيدها الثمين لهذه الشخصية المرتبكة والمربكة في ازدواجيتها الإنسانية، والمظلومة وغير المفهومة من قبل محيطها، والذي يتجلى في المشهد الرائع للعرس حين يقوم بالرقص مراد الذي يطلقون عليه اسم طرشقانه كنوع من السخرية من ذاته، فهو: طرشقانه شاهي النوم... بات يعد في النجوم، يقول: أرقص كي أدوس على أفاعي القلق التي تسكن قحف هذا الرأس، لكم تصورت خلاياي المجنونة منتشرة أمامي كديدان كريهة وأنا أدوس عليها، أنتم لا تعرفون معنى جنون الخلايا، أهو جسد آخر يضم روحي أم كائن آخر داخل هذا الجسد؟

لذا نجده يقرر أن يقوم بعملية تصحيحية لجنسه بالرغم من غضب أعمامه وأولادهم وحزن جدته، فيقول لهم: انصتوا إلي جميعا، ولدت مرة من دون اختيار ذلك، وسأولد من جديد باختيار مني، سأحدد موعد ذلك وأختار هيئتي واسمي، الأمر الذي لا يتيسر لواحد منكم، أنا موعود بحياة جديدة.

بصراحة هذه رواية تزيح الغطاء عن وجع لا يدركه الناس الذين ولدوا بشكل طبيعي، لا يشعرون بمدى هذا الألم الذي يرافق ويصاحب هذه الفئة الممسوخة بجنس محيرها ولا تنتمي إليه، ويضعها في واقع من مطاردة السخرية والتهكم وإلحاق الإيذاء النفسي والجسدي لهم، خصوصا في مطاردة طفولتهم وتدميرها من قبل شواذ المجتمع.

رواية طرشقانه نص تشعر بأنوثة كاتبته في كل مشهد يُشعر القارئ بأن كاتبته امرأة من وصف الفرش وأثاث البيوت، من الملابس، من الحوارات وحياة النساء، من غلي الشاي وصبه، من معرفة حركات وسكنات الجسد، من العين الراصدة لكل التفاصيل الصغيرة المتناهية في الصغر، التي يعجز الرجل عن الإحساس بها أو التقاطها وإدراكها، وحتى إدراك أنفاس الحارات والسكك والحوانيت والجوالة والبائعين، كلها لا تغيب ولا تعزب عن عين كاتبة هي في أساسها إحساس أنثوي يضع بصمته الخاصة في كتابة تفرقة عن كتابة الرجل، وهذا ما أقوله وأؤمن به، ان هناك بصمة هرمونية تميز الكتابة النسوية، وهو أيضا ما أشارت إليه مسعودة على لسان بطلتها نورا: لقد ناب قلم الرجل حد الإبهار عن المرأة، لكن الطرح جاء دائما ملونا باختياراته كرجل، وجاء الطرح محملا بحصاد ما بذر هذا الرجل في تربة المرأة، وبالتالي لم تكن هي المبادرة بكشف العمق، فظل العمق دون مطالبة.

وكشفت الرواية أيضا عن انعكاس حياة المرأة الكاتبة ودوره على من حولها خاصة زوجها، وهو الأمر الذي تعرفه جميع الكاتبات ويدركن دوره في حياة من حولهن، لكن هنا جاءت الشكوى من على لسان الرجل الزوج الذي كشف  متاعبه وما يعانيه من كونه زوجا لامرأة كاتبة. والجميل في الرواية أيضا هو هذه الحيوية والحميمية الناتجة من تطعيم اللهجة التونسية الجميلة باللغة العربية الفصحى والتي اكتشفت بأنها تتشابه مفرداتها كثيرا مع مفردات اللهجة الكويتية القديمة التي لا يدركها الجيل الجديد.

وأيضا تميزت رواية طرشقانه بذكرها ونقلها للأحياء والأنهج القديمة في تونس، مما ذكرني بروايات نجيب محفوظ التي وصلت لعالمية نوبل بسبب نحتها لهذه الأماكن.