تُنسَب إلى أحد أبرز العلماء الطبيعيين ألبرت أينشتاين مقولة "الخيال أهم من المعرفة".

Ad

كنت أجد صعوبة في شرح الفكرة لتلاميذي بمقرر مناهج بحث علمي، فالخيال بالنسبة إليهم لا علاقة له بالعلم والواقع، مع أن له علاقة مباشرة بتخيل علاقة الأشياء بعضها ببعض لكي تخرج واقعاً جديداً.

تعودنا في هذا الزمن قبول الحدث الخيالي ثم التكيف معه، ومن ثم نسيان أنه كان عند حدوثه خيالياً، فمن كان يتخيل أن الاتحاد السوفياتي سيتفكك؟ بالطبع هذا لا ينسحب على الشباب الذين لم يعيشوا تلك الحقبة، وكيف تبخر نظام دولي كامل قام على القطبية الثنائية لنضعه في متحف التاريخ الطبيعي جنباً إلى جنب مع الحيوانات المنقرضة؟ من يتذكر الاتحاد السوفياتي اليوم؟ هو خيال تبخر، تحاول روسيا أن تستعيده هنا أو هناك، فتختلط لديها الصورة بين الواقع والخيال. من كان يتخيل أن نظام ألمانيا الشرقية الذي صدّر أنظمة الاستخبارات إلى منطقتنا، وعلى رأسها نظاما البعث، وهو الذي اخترع "الشبيحة" أو "البلطجية" أو البلاطجة لا فرق، أن ذلك النظام لا يسقط فحسب، بل يتوحد مع ألمانيا الغربية؟! من كان يتخيل أن جمهوريات البلطيق، لاتفيا واستونيا وليتوانيا، تصبح جمهوريات مستقلة بعد غياب زاد على ٧٠ عاماً، بل وتتخلق في لاتفيا واحدة من أكبر مشكلات انعدام الجنسية أو "البدون"، فهل يحق لنا مثلاً أن نتخيل فلسطين وقد عادت؟! لم لا؟

سيجتهد "الحكماء" والباحثون والاستراتيجيون والساسة ورجال الدولة، وربما رجال الدين لـ"عقلنة" ذلك الخيال وجعله يسير وفق واقعهم ومنطقهم، ولكنهم لا يدَعون فرصة للخيال، بأن الصعود ربما لا يكون بسبب القوة ولكن بسبب الضعف، ولا بسبب الغنى بل بسبب الفقر، ولا بسبب الامتلاء بل بسبب الخواء، من يدري؟! من كان يتخيل، مجرد خيال، أن يتحول انتحار بائع خضار في الريف التونسي وتداعياته إلى سقوط واحدة من أعتى دكتاتوريات المنطقة ليهرب زعيمها الأوحد الذي كان يشيد به الشرق والغرب على حد سواء ويتعلمان منه كيف تبدو ديمقراطياً وتمارس الدكتاتورية في ذات الوقت؟ من كان يتخيل ما حدث لمصر والقذافي وصالح، وبشار الذي، حتى وإن لم يسقط، انتهى كنظام منذ أن خرج الناس وانتهى الخوف.

الكل يسعى إلى البحث عن الأسباب المنطقية والمبررات الواقعية ولا يترك مجالاً للخيال. الخيال نقطة مفقودة في ذهنية التحريم السائدة لدينا، وبدونه نصبح مجموعة من الآلات الغبية المتصادمة بالضرورة لا تحمل في داخلها إلا مشاعر الكراهية والحقد وتدمير الآخر وآفة التفوق الوهمي. ألا يكفي ذلك لكي يجعلنا نتخيل زماناً يتعايش فيه الناس ويقبلون الآخر، لا يخزنون أكثر من حاجتهم، لا ينامون شبعانين، وجيرانهم جياع، لا يدافعون عن بشر بسبب انتماء معين، وفي نفس الوقت يدعون إلى قتل بشر آخرين بسبب اختلاف انتماء مختلف.

الخيال هو نقطة الانطلاق المشروعة للعالم الأرحب، وهو الأقرب إلى الواقع مما يراد لنا أن نصدق، وسنعمل لكي يتحول ذلك الخيال إلى حقيقة أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.