إنه لا يرتدي شيئاً أبداً
هناك فقرة أتصور أنها أبلغ ما يمكن أن يوصف به دكتاتور في العالم وليس في أميركا اللاتينية وحدها، قارة صاحب الفقرة غابرييل غارسيا ماركيز، في روايته الأكثر وعورة والأهم في رأيي الشخصي "خريف البطريرك". يقول ماركيز عن دكتاتوره "عندما رأت "بندثون ألفارادو" ابنها في بزته العظيمة مع الميداليات الذهبية وقفازي الساتان اللذين توجب عليه ارتداؤها مدى الحياة، وعندما لم تستطع كباح جماح كبريائها الأمومي صارخة بأعلى صوتها أمام السلك الدبلوماسي بكامله لو علمت بأن ابني سوف يصير رئيس جمهورية لكنت أرسلته الى المدرسة".واحتراما للأمهات تجاوزت صفحة من الرواية كتب فيها ماركيز هذه العبارة "من المعروف أنه كان رجلا بدون أب مثل الطغاة الأكثرة شهرة في التاريخ".
طغاة العالم العربي، وحسب معلوماتي البسيطة، لم يدخلوا ذات المدرسة ولم يدرّسهم مدرس واحد ويلقي على مسامعهم درسا وحيدا من منهج "عبيط" واحد، ولكنهم وبلا فخر يتمتعون بذات الجهل الذي تدل عليه بزاتهم العسكرية المتشابهة وقفازات الساتان التي لم يرتدوها طوال العام الا في حروبهم مع شعوبهم. بنظره سريعة لهم نكتشف أنهم جميعا عسكر: زين العابدين بن علي، حسني مبارك، علي عبدالله صالح، معمر القذافي، بشار الأسد وأخيرا حسن البشير، وقبلهم الذي سبقهم في الرحيل صدام حسين. الحراك الشعبي الذي تأجج في الوطن العربي في ما سمي بالربيع العربي كشف مدى جهل هؤلاء الطغاة جميعا في تعاملهم مع المطالب الشعبية بالاصلاح السياسي أولا. فخرجت جميع تصريحاتهم متشابهه في الغباء رغم التنويعات المضحكة "القاعدة " "المجموعات الإرهابية" "الجماعة التخريبية""قلة مندسة" "قاطعي الطرق"و"المؤامرة". هذه العبارات الرئيسية والتنويع عليها هي الخطاب الوحيد الذي يعرفه هولاء الطغاة في ايحاء منهم بأن البلاد، قبل تدخل هؤلاء المتآمرين عليها، كانت تعيش في أوج مجدها العلمي والثقافي والأمني. وأن القبض على السلطة بسطوة الدبابة والبزة العسكرية هي السبيل الوحيد لحكم الشعب وحفظ أمن المجتمع والرخاء المعيشي والتفوق العلمي.هؤلاء الطغاة أقنعوا الكثيرين بأن رحيلهم يعني الانهيار التام لمفهوم الدولة التي سطوا على مقدراتها بحكم نفوذهم العسكري وليس اقناعهم المعرفي والعقلي وأدخلوا في هذا الاقناع المفكر والسياسي ورجل الدين وبطبيعة الحال العسكري. ولكنهم فشلوا في اقناع رجل الشارع الذي ثار عليهم متحديا تاريخهم الطويل في السيطرة عليه. جميعهم يقرأ الأحداث من حوله بجهل يجعلنا نسخر من الأيام الطويلة التي أمضوها يتربعون على التخطيط لمستقبل أبنائنا ويتحكمون بتطورنا العلمي والمعرفي. فلا هم ولا مستشاروهم وبطانتهم الفاسدة التي تجاريهم في جهلهم يمكن تشبيههم بأكثر من الامبراطور ورجاله الذين لم يجرأوا بأن يصرخوا به "انك عار ياسيدي" حتى لا يصمهم بالغباء، كما في حكاية هانس اندرسون، حتى صرخ طفل "انه لا يرتدي شيئا ابدا" لتردد خلفه الجموع "انه لا يرتدي شئيا أبدا".لم يجرؤ أحد من رجال الرؤساء أن يقول لهم "انكم أغبياء يا سادة، هذه شعوبكم أهانها الفقر والجهل مقابل انعدام الحرية"، ولكنهم يرددون خلفهم كصدى مزعج لأصواتهم "التخريبيون، القاعدة ، ووووو. الى آخر التسميات السخيفة والتي يبدو أنها المخرجات الوحيدة لمدارس هؤلاء "الزعماء" الجهلة.