لن يكون للمفكرين والفلاسفة ذلك الدور المطلوب إلى أن تتم المصالحة الوطنية في الدول الثائرة، فهؤلاء المفكرون يخشون من عنف «حزب الانتقام» فيما لو قالوا ما يعتقدون أنه الصواب، وتعتقد الثورة أنه الخطأ، وهؤلاء المفكرون لا يريدون أن يقفوا أمام قضاة الثورة الذين عادة ما يضعون أحكام الإعدام في جيوبهم!

Ad

قرأنا في أدبيات السياسة الإنسانية، أن حكيماً يونانياً قديماً سأل قيصراً أصبح الحاكم، قائلاً له:

- من سيحكم غداً يا سيدي؟

فرد عليه القيصر:

- أنا لن أحكم!

- إذن من سيحكم؟

- القانون، هو الذي سيحكم فقط!

وهذه إشارة واضحة لنا من الحكيم اليوناني، بأن دولة الحرية والعدالة والديمقراطية هي دولة القانون، وليست دولة الشوارع؛ أي الدولة التي تستجيب لحكم الشارع، وليس لحكم القانون.

ففي بداية الثورات العالمية- الثورة الفرنسية مثالاً لا حصراً- استجابت السلطة لحكم الشارع الهائج، حين حكمت على الملك لويس السادس عشر 1793 بالإعدام بناءً على صيحات الشارع ومطالبه، وكان القضاة يحتفظون بحكم إعدام لويس السادس عشر في جيوبهم، قبل بدء المحاكمة، كما قرأنا في تاريخ الثورة الفرنسية.

تحذير من العقلاء

وقد سبق أن حذرنا المفكر التونسي العفيف الأخضر من سطوة الشارع العربي وسيطرته، وتنبأ بقيام ما أطلق عليه "حزب الانتقام"، كما قال لنا ذلك المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا في رسالة وجهها إلى الثوار العرب، وأطلق العفيف الأخضر اسم "حزب الانتقام"، على حزب الشارع العربي الآن الذي يصدر أحكامه ضد "فلول" الأنظمة السابقة. وهذا "الحزب"، يسعى إلى الانتقام والتشفّي، ويذكرنا بما حصل عقب الثورة الفرنسية في 1789، ويرفض المصالحة الوطنية التي جرت مثلاً في جنوب إفريقيا عقب الإفراج عن الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا عام 1990.

«حزب الانتقام» والعنف

ويسعى "حزب الانتقام" إلى نقل البلد من الدولة إلى اللادولة، أو إلى "الصوملة"، وحيث لغم التوتر العالي بين الجهات، والاشتباك بين القرى، والاقتتال بين الأحياء لأقل شائعة، أو أتفه الأسباب، أو غيرها من مظاهر العنف، التي سيتكفل قانون المحاكاة بتعميمها.

أما اللغم الآخر، الذي لا يقل خطراً، فهو لغم عجز الحكومة المؤقتة، أمام إصرار "حزب الانتقام" على إفلاس الاقتصاد الوطني، عن إعادة البلاد إلى العمل، وهي قضية حياة اقتصادها، أو موته، واستقرارها، وبقائها كدولة صاعدة. و"حزب الانتقام" هذا، فقد الصلة بالواقع المحلي والدولي، وهو مصمم على منع المصالحة الوطنية الشاملة، التي يعي أنها ستقطع الطريق على مساعيه لتحقيق القطيعة مع استمرارية الدولة والنتائج الكارثية المترتبة عليها. وسلاحه اليوم هو تحريض الشارع على رفض العودة إلى العمل مستخدماً لهذه الغاية التظاهر المتواصل، لحماية الثورة من السرقة!

ويقول العفيف الأخضر أن المسعى الرئيسي لـ"حزب الانتقام" هو العنف، ولكن علينا أن ندرك تماماً، أن المسألة المركزية المهمة لكل مجتمع هي التحكم بالعنف، ويكون ذلك من خلال عدة وسائل منها:

1- احتكار الدولة وحدها للعنف المشروع: فمحظور على أي كان غيرها، أن يطهر أو يطرد من الجامع، أو الجامعة، أو البنك، أو يحمل السلاح.

2- توسيع قاعدة النظام الاجتماعي، بفتحه أمام النخب والفئات، التي بقيت على هامشه.

3- توسيع حقوق المواطنة الكاملة للجميع: للنساء والأقليات، ليشترك الجميع في تقاسم السلطة والثروة والخدمات.

وقد سبق أن قلنا إن الغاية من المصالحة الوطنية هي التحكم بالعنف، وإلى أن تقوم السلطة في البلدان التي أسقطت الدكتاتورية، وإلى أن تتم المصالحة الوطنية، التي تستطيع أن تكون هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في وضع عصا العنف، لن يكون للمفكرين والفلاسفة ذلك الدور المطلوب، فهؤلاء المفكرون يخشون من عنف "حزب الانتقام" فيما لو قالوا ما يعتقدون أنه الصواب، وتعتقد الثورة أنه الخطأ، وهؤلاء المفكرون لا يريدون أن يقفوا أمام قضاة الثورة الذين عادة ما يضعون أحكام الإعدام في جيوبهم في مثل هذه الحالات التي يكون فيها "حزب الانتقام" في أعلى درجات هيجانه، ونقمته على الماضي.

«حزب الانتقام» المصري

وحزب الانتقام"، هو الحزب الحاكم والمُتحكّم بالشارع المصري اليوم، كما كان هو الحزب الحكم والمُتحكّم بالشارع المصري عام 1962، وقبل نصف قرن من الآن. و"حزب الانتقام" هو الحزب الذي تدعمه الدولة (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) الآن، وتنفذ له رغباته، في طلب العزل السياسي، كما كانت القوات المسلحة عام 1962 بقيادة عبدالناصر، تدعم مطلب العزل السياسي، لكل من تريد "الجماهير" أن تعزله سياسياً. والغريب أن جماعة الإخوان المسلمين هاجمت العزل السياسي في 1962، ولكنها الآن تنادي به بقوة، ففي 1962 كان ضد مصالحها، واليوم هو لمصالحها.

فمقاييس نجاح الثورة ليست في حناجر الجماهير الغوغاء، فهناك بون شاسع بين مفهوم الشعوب، ومفهوم الجماهير، وكما قال الشاعر اللبناني أُنسي الحاج، فإن أسوأ كلمة في اللغة العربية هي "الجماهير"، التي تملك الحناجر، ولا تملك العقول، وتملك الأصوات، ولا تملك الأفكار.

وإذا كنا نعتقد أن الديمقراطية تُصنع في الشارع، فهذا خطأ جسيم.

دليل مصري واضح

والدليل المصري الواضح والحديث، على مدى سيطرة الشارع المصري وبالتالي "حزب الانتقام" على قرارات الدولة، وعلى أعلى سلطاتها وهي "السلطة القضائية"، إصدار وزارة الداخلية المصرية بياناً بالتزامها بتنفيذ حكم القضاء الإداري بشأن قضية جنسية والدة الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل المرشح لرئاسة الجمهورية.

وقال الشيخ حازم، إنه عرض مذكرة تفصيلية على المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات وأعضاء اللجنة، وأطلعهم على آخر التطورات فى القضية عقب حكم جلسة مجلس الدولة الذي كان لمصلحته تماما، وذكر فيها محامي الحكومة «هيئة قضايا الدولة» أن والدته لا تحمل أي جنسية أخرى غير المصرية، وتحمل «غرين كارد» وليس الجنسية.

ولكن سبق لوزارة الخارجية المصرية أن أقرت بجنسية والدة حازم أبوإسماعيل الأميركية، وأفادت أنها جاءت إلى مصر عدة مرات بجواز سفر أميركي، ولكن يبدو أن تهديد نشطاء حملة حازم أبوإسماعيل الانتخابية ومناصريه بالنزول إلى الشارع هو الذي أخاف القضاء المصري واضطره لإصدار حكم قضائي لمصلحة المرشح حازم أبوإسماعيل، وكان هذا كله قبل قرار لجنة الانتخابات الأخير بعدم شرعية أو جواز ترشيح حازم أبوإسماعيل للانتخابات. ولعل تهديد الإخوان المسلمين بالنزول إلى الشارع المصري في حال عدم حرمان عمر سليمان من الترشح، مثال ودليل آخر على مدى قوة الشارع في فرض أحكامه على الدولة، وكان هذا كله أيضاً قبل قرار لجنة الانتخابات الأخير بعدم شرعية أو جواز ترشح خيرت الشاطر للانتخابات.

وهكذا يبقى الشارع هو الحزب الأقوى، في الدول التي مازالت في "غيبوبة نشوة الثورة"، ولم تستيقظ بعد!

* كاتب أردني