كان مئات المتظاهرين يهتفون في ميدان التحرير، بقلب العاصمة المصرية، قبل يومين، مطالبين بـ"تطبيق شرع الله"، تمهيداً لـ"مليونية تطبيق الشريعة"، المزمع تنظيمها يوم الجمعة المقبل، بينما كان داعية إسلامي شهير يتحدث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معتبراً أن "من لا يريد تطبيق شرع الله فهو كافر ومرتد عن الإسلام".

Ad

إنها نغمة أكثر وضوحاً من كل النغمات التي عُزفت على وتر مسألة تطبيق الشريعة في مصر بعد ثورة 25 يناير، وهي مقولة ترفع سقف النقاش الدائر في محافل سياسية مختلفة، وفي أقنية الإعلام والمجال العام، حول المساحة التي يجب أن تحتلها تصورات وتأويلات بعض الجماعات ذات الارتكاز الديني، في الحياة السياسية المصرية.

يقول الداعية الدكتور وجدي غنيم إن "من يرفض المادة الثانية من الدستور المصري كافر"، ويزيد على ذلك بالقول إن "من يطلق على نفسه صفة العلماني أو الليبرالي أو الحداثي فهو كافر".

إنه موقف حاسم، يجعل من الصعب على أي سياسي أو إعلامي أو مهموم بالشأن العام، سواء كان مسلماً أو مسيحياً، أن يتحدث عن رؤية مغايرة لرؤية الدكتور غنيم وما يمثله، خاصة أن الملايين من المصريين البسطاء يؤمنون بالطبع بأن "الإسلام هو الحل"، وبأن "تطبيق الشريعة سيحل كافة المشكلات التي تعانيها البلاد"، وأن الإعصار "ساندي" ضرب الولايات المتحدة لأن "مواطنيها فاسدون"، كما قال داعية آخر.

من سيجرؤ على طرح وجهة نظر أخرى حيال مساحة دور التصور الديني للجماعات الإسلامية الغالبة في الدستور أو السياسة العامة في مصر، إذا كان الدكتور غنيم، وما يمثله، وأنصاره، ومن يصدقه، ويتبعه، يرون أن "من يعارض تطبيق الحدود وحكم كتاب الله وسنة رسوله مجرم وكافر"؟

ليت الأمر يقتصر على ذلك، لكن الدكتور غنيم يربط بالطبع بين ذلك الاستخلاص الديني الدعوي الإيماني من جهة، والحراك السياسي والتصويت الانتخابي؛ ومن ذلك أنه اعتبر مثلاً أن "سقوط الرئيس مرسي يعني سقوط الإسلام".

من سيجرؤ إذن على التصويت ضد مرسي أو التظاهر ضده، إذا كان هذا الأمر يعني "إسقاط الإسلام"؟

أما المشكلة الأخطر فعلاً؛ فهي امتداح هذا الداعية لما قام به أهالي إحدى قرى محافظة المنوفية بوسط الدلتا، حين تمكنوا من الإمساك بعدد من "البلطجية"، ولم يسلموهم للشرطة، إنما "قتلوهم على طول... الله يبارك لهم... هو دا حد الله تبارك وتعالى، ولازم نطبق الحدود... هي دي الشريعة الإسلامية" (...).

تبدو الصورة واضحة إذن الآن: "يجب تطبيق الشريعة، ومن لا يوافق على تطبيقها كافر، ومن لا ينتمي للجماعات الإسلامية ويصنف نفسه ليبرالياً أو علمانياً أو حداثياً كافر ومجرم، ومن يسقط مرسي أو يصوت ضده إنما يسقط الإسلام، ويجب أن نأخذ حقنا بأيدينا، ووفق فهمنا للشريعة، وبعيداً عن تدخل الدولة، علينا أن نطبق الحدود".

إنه إذن توجيه استراتيجي، يبدو أن الكثيرين تلقوه وعملوا به منذ بسط الإسلام السياسي سيطرته على مصر ما بعد ثورة يناير.

فقد شهدت محافظة السويس (شرقي البلاد)، في الأسبوع الماضي، قيام مجموعة من الإسلاميين بالاعتداء على طالب أزهري لأنه "تجرأ على شيخهم"، محاولين قطع يده، قبل أن يصدر هذا الشيخ فتوى بـ"قطع لسان" شقيق المُعتدى عليه، لأنه ناصر أخاه، عبر توجيه السباب للمعتدين.

السويس نفسها كانت قد شهدت واقعة قتل طالب بكلية الهندسة، في يوليو الفائت، لأنه كان بصحبة خطيبته في حديقة، حين استفز مظهره مجموعة من "المتدينين"، الذين أرادوا "هدايته"، فتطورت "محاولة الهداية" إلى جريمة قتل، تحت عنوان "النهي عن المنكر".

ومن السويس إلى الإسكندرية (شمال)، حيث قامت معلمة منقبة بمدرسة ابتدائية، الشهر الماضي، بقص شعر تلميذتين عنوة، لأنهما خالفتا أوامرها، وحضرتا إلى المدرسة "من دون حجاب".

الأمر في الصعيد يبدو أسوأ، لأنه الأقل تنمية والأكثر ابتعاداً عن قبضة الدولة المركزية، ولذلك، فقد كان من السهل أن يتظاهر عشرات السلفيين أمام مبنى تابع لمحافظة المنيا، احتجاجاً على حفل موسيقي، نظمته إحدى الجمعيات الأهلية، تحت إشراف المحافظة، بدعوى أن "الموسيقى والغناء حرام"، وأن "المشاركين في الحفل مسيحيون ويقومون بعمليات تبشير"، وهو الأمر الذي انصاعت له الأجهزة الأمنية، وأصدرت أوامرها للجمهور بالانصراف من الحفل.

وفي بني سويف، شمال الصعيد، منع أبناء إحدى القرى مواطنين مسيحيين من القدوم إلى الكنيسة التي تقع في قريتهم لأداء الصلاة، زاعمين أن مجيئهم "يزحم طرقات القرية".

تذكر واقعة بني سويف، بما حدث الشهر الماضي في رفح على الحدود المصرية- الفلسطينية، حيث تضعف السيطرة الأمنية للدولة، وتكرس الجماعات التكفيرية والجهادية والسلفية سيادتها في تلك البقعة الاستراتيجية. فقد هدد ناشطون إسلاميون أسراً مسيحية بالاستهداف، الأمر الذي أدى إلى مغادرة بعض تلك الأسر المدينة.

أما ما حدث في الضبعة (شمال غرب)، فليس سوى استنساخ لقصة متكررة، لطالما أنتجت فتناً واحتراباً أهلياً؛ فقد تغيبت طفلة قبطية تدعى سارة إسحق، تبلغ من العمر 14 عاماً، عن منزلها، قبل أن يظهر أنها "تزوجت من شاب سلفي، وأعلنت إسلامها"، وهو أمر يخالف القانون بالطبع بالنظر إلى حداثة سن تلك الطفلة، التي تحول دون زواجها، والتي تشكك أيضاً في قدرتها على اتخاذ قرار بتغيير دينها لأسباب عقيدية.

الخطير في الأمر، أن الدولة لم تتحرك لكي تعيد الطفلة إلى أهلها، وأن أنصار الزوج السلفي يحذرون من التدخل الحقوقي والمدني لمحاولة إعادة الطفلة، باعتباره عملاً "مناهضاً للإسلام"، وأن الكثير من هؤلاء يعتبر أن ما جرى "فتح وانتصار للإسلام"، وهو أمر سيعمق جراح السلم الأهلي المصري، ويعيد التذكير بحكايات سوداء مريرة اتخذت أسماء مختلفة؛ مثل: وفاء، وكاميليا، وعبير، وغيرهن.

يجري كل هذا في مصر اليوم دون أن يتحرك الرئيس مرسي أو حكومته، ودون أن يخرج أحد مسؤولي حزب "الحرية والعدالة" الحاكم ليطمئن الجمهور على وجود الدولة وانتباهها لمسؤولياتها في إقامة القانون، وإحلال الأمن، واحترام حقوق المواطنة والمساواة بين أبنائها.

لا يبدو أن النظام الحاكم في مصر اليوم قادر على التعاطي بمسؤولية وحزم مع مثل تلك الحوادث المتكررة، بسبب اعتماده على "المخزن التصويتي" للإسلاميين، الذين يريد أن يرضيهم، لكي يضمن حصد أصواتهم في الاستحقاقات المقبلة؛ مثل الاستفتاء على الدستور، والانتخابات التشريعية والرئاسية.

ويبدو أن النظام بهذه النزعة الانتهازية يمكن أن يضمن بالفعل تصويت الإسلاميين لمصلحته، ليتمتع بالبقاء فترة أطول على رأس الدولة؛ لكنه في الوقت نفسه يخاطر، بهذه الانتهازية والرخاوة، ببقاء الدولة ذاتها.

* كاتب مصري