Les Désorientés... أمين معلوف بين الحنين إلى الوطن ومأساة الحرب
حقق الكاتب والصحافي اللبناني الغني عن التعريف، أمين معلوف، شهرة واسعة في عالم القلم والأدب. فحصد جوائز كثيرة وشغل مناصب عدة. وعاد اسمه أخيراً ليشغل الصحف العربية والعالمية مع دخوله الأكاديمية الفرنسية وصدور روايته Les Désorientés {التائهون}.
وُلد أمين معلوف في بيروت عام 1949 حيث امتهن الصحافة بعد تخرجه، لكنه غادرها إلى فرنسا إبان الحرب اللبنانية. تابع معلوف عمله في عالم الصحافة والكتابة. وصدر أول كتاب له عام 1983، لتليه مجموعة من الأعمال الأدبية التي نال عنها جوائز كثيرة، لعل أبرزها «غونكور» عن روايته «صخرة طانيوس». وفي شهر يونيو الماضي، دخل معلوف أكاديمية «الخالدين».
يتناول كتابه الأخير، Les Désorientés {التائهون}، قصة آدم الذي هجَّرته الحرب من بلده ليعود إليه مرغماً لرؤية صديق له على فراش الموت. لكن الأخير يسبقه فيغتنم آدم عودته إلى أرض الوطن ليقابل مَن تركهم من أصدقاء الصبا. استوحى معلوف الرواية من مرحلة شبابه التي أمضاها على حد قوله «مع أصدقاء كانوا يحلمون بعالم أفضل». وهنا مقتطف منها:
وُلد أمين معلوف في بيروت عام 1949 حيث امتهن الصحافة بعد تخرجه، لكنه غادرها إلى فرنسا إبان الحرب اللبنانية. تابع معلوف عمله في عالم الصحافة والكتابة. وصدر أول كتاب له عام 1983، لتليه مجموعة من الأعمال الأدبية التي نال عنها جوائز كثيرة، لعل أبرزها «غونكور» عن روايته «صخرة طانيوس». وفي شهر يونيو الماضي، دخل معلوف أكاديمية «الخالدين».
يتناول كتابه الأخير، Les Désorientés {التائهون}، قصة آدم الذي هجَّرته الحرب من بلده ليعود إليه مرغماً لرؤية صديق له على فراش الموت. لكن الأخير يسبقه فيغتنم آدم عودته إلى أرض الوطن ليقابل مَن تركهم من أصدقاء الصبا. استوحى معلوف الرواية من مرحلة شبابه التي أمضاها على حد قوله «مع أصدقاء كانوا يحلمون بعالم أفضل». وهنا مقتطف منها:
دوّن آدم في أجندته قبل يومَين من انكشاف فصول هذه القصة: «أحمل اسم الإنسانية الناشئة، مع أنني أنتمي إلى إنسانية يخبو نورها.لا أعرف السبب الذي دفع بوالدَيّ إلى منحي هذا الاسم، فقلة من الناس في بلدي الأم يحملونه، ولم يُعطَ لأي من أفراد عائلتي قبلي. أذكر أنني سألت والدي ذات مرة عن هذه المسألة، إلا أنه اكتفى بالإجابة: «آدم أبو كل البشرية»، كما لو أنني لا أعرف ذلك. كنت آنذاك في العاشرة من عمري، ولم أطلب منه توضيحاً إضافياً. لربما كان علي أن أسأله قبل وفاته ما إذا كان خياره هذا يخفي وراءه نية أو حلماً ما.
يبدو لي أنني مصيب في حدسي هذا، فقد شعر في داخله أن قدري أن أكون من المؤسسين. ولكن ها أنا اليوم مرغم، وقد بلغت السابعة والأربعين من عمري، على الإقرار أنني لن أتمّ مهمتي هذه. فلن أكون الأول في سلالة، بل الأخير، الأخير بين أهلي، هذا الأخير الذي يرزح تحت أحزانهم المتراكمة، ويحمل خيبات آمالهم كما خزيهم. أُوكلت إلي مهمة بشعة، مهمة تمييز ملامح مَن أحببتهم، لأهز بعد ذلك رأسي فيما ينخفض الغطاء مجدداً ليخفي وجوههم.صرت رسول الموت. وعندما يحين دوري، سأهوي كجذع من دون أن أنحني، مردداً لكل مَن يسمع: «كنت أنا محقاً، والتاريخ على خطأ».كانت هذه الصيحة المتعجرفة المنافية للمنطق تتردد باستمرار في رأسي. ولا شك في أنها تصلح عنواناً لتطوافي العقيم الذي بدأته قبل عشرة أيام.عندما عدت إلى أرضي التي جرفتها السيول، فكرت في إنقاذ بعض بقايا ماضيّ وماضي أهلي. لم أتوقع الكثير، لكننا حين نحاول تأخير مشاعر الحسرة، نخاطر بأن تأتينا مسرعةً جارفةً... رغم ذلك، لا أندم على قيامي بهذه الرحلة. صحيح أنني كنت أعاود كل مساء اكتشاف الأسباب التي حدت بي إلى الرحيل عن بلدي الأم، لكني كنت كل صباح أعاود أيضاً اكتشاف الأسباب التي حالت دون انفصالي عنه تماماً. كانت فرحتي الكبرى حين عثرت وسط الماء على جزر صغيرة من رقة الشرق وحنانه الدافئ. فولّدت في نفسي، في الوقت الراهن على الأقل، شهية جديدة إلى الحياة وأسباباً جديدة لأناضل، وربما بارقة أمل.وماذا عن المستقبل البعيد؟في المستقبل، كل أولاد آدم وحواء مصيرهم الهلاك».اليوم الأولفيما كان آدم يغط في النوم يوم الخميس، لم يخطر في باله أنه في اليوم التالي سيستقل الطائرة عائداً إلى بلده الأم، بعد أن أمضى السنوات بعيداً عنه طوعاً، ليكون إلى جانب رجل تعهد بألا يخاطبه مجدداً.لكن زوجة مراد أحسنت اختيار الكلمات التي انهارت أمامها حصون آدم: «سيموت صديقك، ويطلب رؤيتك».علا رنين الهاتف في الخامسة فجراً. فرفع آدم السماعة في العتمة، ثم ضغط على أحد أزرار الإنارة وأجاب: «لا، أؤكد لك أنني لست نائماً»، مردداً بضع أكاذيب من هذا القبيل.قال له بعد ذلك مَن يخاطبه في الطرف الأخر من الخط: «سأمرر له السماعة».كان على آدم أن يحبس أنفاسه ليسمع صوت مَن بدأت الحياة تفارقه. رغم ذلك، خمّن كلماته أكثر مما سمعها. كان ذلك الصوت القادم من بعيد أشبه بحفيف القماش. كرر آدم مرتين أو ثلاث عبارتَي «بالتأكيد» و{أفهم» من دون أن يفهم أو يتأكد من أي شيء. وعندما فرغ مخاطِبُه من الكلام، قال له آدم بحذر: «إلى اللقاء!». وأصغى لبضع دقائق ليتأكد من أن زوجته لم تأخذ السماعة، ثم أقفل.التفت آدم عندئذٍ نحو صديقته دولوريس، التي أشعلت نور الغرفة وجلست في السرير، متكئةً إلى الحائط. ارتسمت على وجهها ملامح تُظهر أنها تزن السلبيات والإيجابيات، إلا أنها كانت قد حسمت أمرها: «سيموت صديقك، وقد اتصل بك. لا يمكنك التردد. عليك الذهاب». فسارع إلى الردّ: «صديقي؟ أي صديق؟ لم نتحادث منذ عشرين عاماً».عندما كان اسم مراد يُذكر ويُسأل آدم عما إذا كان يعرفه، اعتاد منذ سنوات الإجابة بأنه «صديق قديم». كان يفترض بعض محاوريه أنه يريد القول إنه «صديق مسن»، إلا أن آدم كان ينتقي كلماته بدقة. فقد جمعته بمراد علاقة صداقة، لكنها انقطعت. لذلك بدت له عبارة «صديق قديم» الصيغة الوحيدة الملائمة.عندما كان يطرح حجته هذه أمام دولوريس، كانت تكتفي عادة بالابتسام له تعاطفاً. لكنها حرمته تلك الابتسام في ذلك الصباح.«إذا اختلفتُ مع أختي غداً، فهل تصبح «أختي القديمة»؟ وهل يصبح أخي «أخي القديم»؟».يختلف الوضع عند التعامل مع أفراد العائلة، فلا خيار أمامنا...ولا خيار أمامك في هذه المسألة أيضاً. يصبح صديق الصبا أخاً بالتبني. قد تندم على تبنيه، إلا أنك لا تستطيع تغيير الواقع.كان بإمكان آدم أن يوضح لها مطولاً أن رابط الدم له طبيعة مختلفة. إلا أنه كان بذلك سيخاطر بدخول أرض مليئة بالألغام. فما من رابط دم يجمعه بصديقته. فهل يعني ذلك أنهما قد يتحولان إلى شخصين غريبين أحدهما عن الآخر، مهما كانت العلاقة التي تربطهما اليوم قوية؟ وأنه إذا طلب أحدهما رؤية الآخر وهو على فراش المرض، فقد يكون جوابه الرفض؟ لا شك في أن إثارة هذا الاحتمال بحد ذاته بدت أمراً معيباً. لذلك آثر آدم الصمت.أدرك آدم ألا طائلة في الجدل في مطلق الأحوال، لأنه سيرضخ عاجلاً أو آجلاً. لا شك في أنه يملك ألف سبب ليبتعد عن مراد، ليقطع صداقته به، وليتخلى عن «تبنيه» له، مهما قالت صديقته. لكن هذه الأسباب تفقد قيمتها مع اقتراب الموت. فإن رفض مواساة صديقه وهو على فراش الموت، فلن يسامح نفسه حتى آخر يوم من حياته.نتيجة لذلك، اتصل بوكالة السفريات ليحجز مقعداً على آخر رحلة مباشرة. تقلع هذه الرحلة بعد ظهر ذلك اليوم عينه في الساعة الخامسة والنصف لتحط في وجهتها في الحادية عشرة مساء. فكان من الصعب عليه الإسراع أكثر في المغادرة.يعجز البعض عن التفكير بوضوح، ما لم يدوّنوا أفكارهم على الورق، وهذه كانت حال آدم، ما شكّل، في رأيه، ميزة وعيباً في آن.فما دامت يداه في حالة خمول، يشرد ذهنه بعيداً. فيعجز عن ترويض أفكاره وتنسيقها. لذلك كان يسارع إلى الكتابة كي تنتظم أفكاره. وهكذا بات التفكير بالنسبة إليه وظيفة يدوية.بدا له أن خلايا دماغه مرتبطة بأطراف أصابعه. ولكن من حسن حظه أن أصابعه متعددة المهارات، فيمكنها الانتقال بلا عناء من الخطّ بالريشة على الورق إلى تشغيل أزرار لوحة المفاتيح للطابعة على الشاشة. لذلك اعتاد أن يحتفظ في جيبه بأجندة غليظة غطاؤها ناعم، وفي حقيبته الرسمية بحاسوب محمول. وكانت البيئة التي يجد نفسه فيها والكلمات التي يود كتابتها تمليان عليه بأي من هاتين الوسيلتين يستعين.لجأ في بداية رحلته في ذلك اليوم إلى الأجندة، فأخرجها وبحث فيها عن أول صفحة بيضاء، ثم انتظر إلى أن تنطفئ الإشارة الضوئية قبل أن يفتح الطاولة الصغيرة أمامه.«منذ أن أقلعت الطائرة، أحاول أن أهيئ نفسي للامتحان الذي ينتظرني، متخيلاً ما قد يقوله لي مراد ليبرر أفعاله وما عليه إجابته، ما يُقال عادةّ في الأوضاع الطبيعية وما يمكنني قوله في حالته هذه، كيف يمكنني أن أتركه يرقد بسلام من دون أن أبالغ في الكذب عليه، وكيف أستطيع التخفيف عنه من دون أن أبدو أنني كنت مخطئاً.لست واثقاً من أن علينا مسامحة مَن شارفوا على الموت. فمن العبث أن نمحو الأخطاء كافة في الليلة الأخيرة للحياة البشرية، أن ننسى قسوة البعض وجشعهم وتعاطف البعض الآخر وتضحياتهم. ألا يصبح عندئذٍ المجرم والضحية أو الظالم والمظلوم متساويين ساعة يأتيهما الموت؟ أنا أرفض ذلك. فالإعفاء من العقاب، في رأيي، غير مقبول كما الظلم، فهما في النهاية وجهان لعملة واحدة.في القرون الأولى بعد المسيح، عندما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، حاول بعض أفراد الطبقة العليا، وفق السجلات التاريخية، تأخير اهتدائهم قدر المستطاع. أفلم يُخبروا أن كل خطاياهم تمحى لحظة معموديتهم؟ لذلك واصلوا حياتهم الماجنة ولم يتعمدوا إلا على سرير الموت.لا أعرف ما إذا كان لهذه التوبة المتأخرة أي قيمة في نظر الدين. لكنها في رأيي بلا جدوى. كانت بدون أي قيمة خلال عهد الإمبراطورية الرومانية، وما زالت كذلك اليوم. لكن ساعة الموت لها وقارها. يجب ألا تفقد لحظة خروج الروح هذه احترامها، إن أردنا أن نحافظ على إنسانيتنا، مهما كان حكمنا على المنازع وأفعاله، حتى لو كانت أفظع الجرائم.لا بد من أن أوضح أن هذه ليست حال مراد. صحيح أني ألومه على أمور كثيرة، يقارب بعضها الجرائم في رأيي، ولكن علينا أن نحذر من إخفاقات اللغة. فقد يرتكب الإنسان أحياناً جريمة لا تستحق أن يُدعى بسببها مجرماً. وبقدر ما أمقت الإعفاء من العقاب، أرفض المساواة بين الأخطاء كافة، متناسين حجمها والدوافع وراءها والظروف المحيطة بها. فيمكن لهذه الأخيرة أن تكون، كما يشير القانون، «مخففة»، من دون أن تبرئ المذنب.لا أشك ولو لحظة في أن سلوك صديقي القديم خلال سنوات الحرب يشكّل خيانة للقيم التي تشاطرناها، وآمل ألا يحاول إنكار هذا الواقع. لكن ألم يكن إخلاصه سبب خيانته؟ فقد دفعه تعلّقه ببلده إلى رفض الرحيل في بداية الصراع. وبما أنه اختار البقاء، اضطر إلى التوصل إلى تسويات والقبول خلال مجرى الأحداث بتنازلات قادته إلى سلوك غير مقبول. ولو بقيت في البلد لتصرفت مثله على الأرجح. يمكننا من بعيدٍ الرفض من دون تحمل أي عواقب، لكننا نخسر هذه الحرية حين نصبح في قلب الأحداث.إذاً، كانت خصال مراد الحميدة سبب ضياعه، في حين أن عيوبي أنقذتني. فكي يحمي أهله ويحافظ على إرث والده، حارب كالوحش، بخلافي أنا. فعائلة الفنانين، التي نشأت فيها، لم تزرع في داخلي القيم ذاتها، ولا تلك الشجاعة الجسدية أو الإحساس بالواجب أو الإخلاص. ومع عمليات القتل الأولى، رحلت، أنقذت نفسي، وحافظت على يديّ نظيفتين. هكذا حظيت بامتياز الفار الجبان الشريف والمستقيم.مع اقتراب موعد الهبوط، بدت أفكاري أكثر تشويشاً مما كانت عليه لحظة الإقلاع. رأيت مراد شخصيةً ثانوية ضعيفة مثيرة للشفقة عالقة في مأساة أكبر منها. وإن كنت آبى أن أغفر لمراد أخطاءه، يجب ألا أسامح إذاً سائر الكون وكذلك نفسي.لذلك قررت أن أجلس قرب مراد وهو على فراش الموت من دون امتعاض. سأتيح له فرص الاعتراف لي بمكنونات قلبه، سأصغي إليه، سأمسك بيده، وسأهمس في أذنه بعبارات المسامحة والغفران كي يموت بسلام».لم يكن أحد بانتظار آدم في المطار. فأثارت هذه العقبة التافهة، التي توقعها بالتأكيد لأنه لم يُخطِر أحد بقدومه، في نفسه فيضاً من الحزن والارتباك الذهني العابر. واضطر أن يبذل مجهوداً ليذكّر نفسه أنه حطّ لتوه في مدينته الأم، في بلده.20 أبريل، تتمةاجتزت نقطة الجمارك، قدمت جواز سفري ثم استعدته وخرجت وأنا أتأمل الحشد من حولي كما لو أنني طفل تائه. لم يكلمني أحد، لم يكن أحد بانتظاري، لم يعرفني أحد. قدِمت إلى هذا البلد للقاء شبح صديق، فتحولت أنا نفسي إلى شبح.عرض علي سائق خدماته. فأبلغته موافقتي بنظرة وسمحت له بحمل حقيبتي إلى سيارته، دودج قديمة ركنها بعيداً عن صفّ سيارات الأجرة المعتاد. لاحظت أنها ليست سيارة أجرة بحق لأنها لا تحمل لوحة حمراء ولا عداداً. أشتكي عادة من تعديات مماثلة، لأنها تثير استيائي. إلا أني فضلت في تلك الليلة الابتسام. تعيد هذه الانتهاكات إلى ذهني بيئة مألوفة وتحملني تلقائياً على توخي الحذر. سألت السائق بلغة عربية لا تخلو من لهجة أهل البلد عن المبلغ الذي يريده لقاء خدماته كي أوفر على نفسي مذلة أن يخالني سائحاً.ساورتني في الطريق فكرة أن أتصل بأقاربي وأصدقائي. كان الليل قد انتصف تقريباً، ولكن ما عادت تجمعني بأي منهم علاقات وطيدة كي يصرّ أحدهم على دعوتي للإقامة عنده. لذلك امتنعت في النهاية عن الاتصال بهم. وراودتني فجأة الرغبة في البقاء وحيداً، مجهولاً، خفياً.راقني هذا الشعور الجديد. فقد بتّ مجهولاً في وطني، بين أهلي، وفي المدينة التي تربيت فيها.كانت غرفة الفندق الذي نزلت فيه واسعة والشراشف نظيفة، لكن ضوضاء الشارع لم تهمد، حتى في تلك الساعة المتأخرة. أضف إلى ذلك الهمدرة المزعجة لمكيّف الهواء، الذي لم أجرؤ على إطفائه مخافة أن أستيقظ وأنا أتصبب عرقاً. لم أظن أن الضجيج قد يحرمني النوم، فيومي كان طويلاً وسرعان ما يستسلم جسمي للنوم وكذلك ذهني.جلست في السرير بعد أن أطفأت كل أنوار الغرفة، باستثناء المصباح الصغير قربي. ورحت أفكر في مراد بلا انقطاع. أرغمت نفسي على تخيله كما يُفترض أن يكون اليوم. حين تقابلنا آخر مرة، كان في الرابعة والعشرين وكنت في الثانية والعشرين. ما زلت أذكره رجلاً قوياً، صلباً، مفعماً بالحياة. لكنه ذبل بالتأكيد تحت تأثير المرض. أتخيله قابعاً في كرسي مدولب في منزل عائلته القديم في القرية، وجهه مصفر، وغطاء صوفي ملقى على ركبتيه.أو قد يكون في سرير من حديد في المستشفى، محاطاً بأنابيب المصل الضمادة والأجهزة الوامضة. وبجانبه الكرسي الذي سيطلب مني الجلوس عليه.غداً، أعرف يقيناً».اليوم الثانياتصلت زوجة مراد بآدم على هاتفه الخلوي في الصباح الباكر. كانت تعتقد أنه لم يغادر باريس بعد، فقالت له بصوت جاف من دون أي مقدمات ولا حتى كلمة «ألو» المعتادة: «لم يستطع انتظارك».كان الظلام لا يزال يلفّ الغرفة، فأفلتت من فمه كلمة سباب همساً، ثم أبلغ المتصلة أنه في البلد منذ ليلة أمس بناء على طلب زوجها رؤيته.لكنها سارعت إلى تكرار: «لم يستطع انتظارك».أعادت الجملة عينها كلمة بكلمة إنما بلهجة مختلفة، فقد أسقطت منها نبرة اللوم والعتاب. ومن الحزن، الغضب، وربما في حالة آدم، مما يشبه الامتنان، تمتم عبارة مناسبة.ساد الصمت في كلا طرفي الخط، قطعته الأرملة بعد لحظات لتقول له ببساطة: «شكراً»، كما لو أنها ترد بلطف على كلمات العزاء، ثم بدأت تستفسر عن المكان الذي ينزل فيه.«سأرسل إليك سيارة، فلن تستطيع الوصول بمفردك».لم يرفض آدم عرضها، لأنه يعي تماماً أنه لا يجيد التنقل في هذه المدينة، حيث تفتقر الشوارع إلى لافتات، أرقام، وأرصفة، وحيث تحمل الأحياء أسماء أبنية والأبنية أسماء أصحابها...السبت 21 أبريلكانت تانيا متشحة بالسواد، ومراد مسجًّى تحت شراشف ملساء لا طية فيها، وقد سُدّ منخراه بقطعتي قماش. كان يشغل جناحاً كاملاً مؤلفاً من غرفتين مجاورتين، صالون، وشرفة. كانت العيادة مليئة بالرخام، فبدت لي المكان المناسب ليموت فيه المرء ككلب أصيل.وقفت عند طرف السرير، لكنني لم أذرف الدمع. حنيت رأسي أمام الجثمان، أغمضت عيني، تجمدت في مكاني، وتحليت بالصبر. حاولت التأمل، لكن الأفكار هربت مني، تاركة ذهني خالياً. لاحقاً أتأمل وأسترجع ذكريات صداقتنا السابقة، لاحقاً أرغم نفسي على تذكر مراد الشاب. ولكن الآن أمام جثمانه ساد الصمت والفراغ.عندما سمعت خطى خلفي، اغتنمت الفرصة لأتنحى جانباً. فاقتربت من تانيا وضممتها للحظات، ثم توجهت للجلوس في الصالون الذي لم يكن صالوناً فعلاً. فقد ضمّ ثلاث أرائك من الجلد البني، ثلاثة كراسٍ قابلة للطي، آلة لصنع القهوة، قناني مياه معدنية، وجهاز تلفاز خافت الصوت. لكن ذلك كله يُعتبر من وسائل الترف في عيادة طبية. سبقني إلى الصالون أربع نسوة متشحات بالسواد ورجل مسن لم يتقن حلاقة لحيته. وبما أنني لا أعرفهم، اكتفيت بتحيتهم بإيماءة من رأسي وانهرت في المقعد الوحيد الفارغ.