لن تكون للعربية حياة إلا إذا غدت لغة الحياة
العرب يشتكون في اللحظة الراهنة من ضعف اللغة العربية وتضاؤل إلمام الشباب العربي بها، وهم يلقون باللائمة على ضعف التدريس بالمدارس تارة، أو عزوف الشباب عن القراءة في هذا الجيل، أو محاولات الأجانب القضاء على اللغة العربية، ونادراً ما يعترفون بوجود ضعف أو نقص في العربية ذاتها! كيف؟ لغتنا العربية الشريفة، فيها ضعف أو نقص؟ حاشا لله... إنها كاملة مكملة! ومن يقول بذلك يردد أقوال المستشرقين... قبحهم الله! نعم ثمة ضعف موضوعي في اللغة العربية علينا أن "نتبينه" رغم كل ما بذل من جهود جبارة في الماضي لخدمتها وحفظ تراثها وشرح مفرداتها. وسامح الله أستاذنا الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله الذي أكد في كتابه الأول عن "العقل العربي" أن "الأعرابي صانع العالم وصانع اللغة العربية"، وهذه العبارة غير الدقيقة أصبح يلوكها المثقفون العرب وكأنها كتاب منزل، غير أنه لدى البحث الدقيق نجد أن هذه الفرضية متسرعة وغير دقيقة، يقول أ.د. محمد صالح بن عمر في مقدمته لكتاب الأستاذ يوسف العثماني "الجمع في القرآن وأبعاده الدلالية"، بجامعة تونس: "ومن مظاهر التناقض في مواقف النحاة ما زعموه أن لغة قريش هي أفصح اللغات، لأن الرسول قرشي، على الرغم من أن هذه القبيلة حضرية، وقولهم في الوقت نفسه أن الفصاحة تنحصر في لغات الأعراب. والحال أنه كان للرسول موقف صريح واضح من هذه المسألة، إذ قال: "أنا أفصح من نطق الضاد، بيد أني من قريش، وقد تربيت في بني سعد"، وقد كان بنو سعد بدواً تميميين نجديين. وقد انعكس هذا التناقض الذي وقع فيه النحاة فيما وضعوه من قواعد لم يراعوا فيها لغة القرآن الكثيرة الجوازات وحيويتها المتأنية في افتتاحها على جل اللهجات العربية زمن التنزيل…". (المرجع المذكور، ص 8). فإذا سلمنا بأن "الأعرابي قد صنع اللغة العربية" فأين نضع القرآن الكريم، وتاريخياً كتابات الجاحظ التي أسست للأسلوب العربي مطلع العصر العباسي، أي مطلع النهضة العربية الإسلامية، والجاحظ لم يؤرخ له محمد عابد الجابري لأنه في عرفه أديب وليس مفكراً! إذا أسقطنا الجاحظ من عالم الفكر، فأي ظلم نقترف بحقه؟ لقد وقع محمد عابد الجابري ضحية التصنيف المدرسي الأكاديمي الذي لا يضع الجاحظ في قسم الفلسفة الذي كان يلقي فيه الجابري دروسه! صحيح أن علماء اللغة كانوا يرحلون إلى البادية ويستمعون إلى لغة الأعراب، ولكن هل لغة الأعراب هي اللغة العربية في تطوراتها عبر العصور إلى أن وصلت إلينا؟ وصحيح أن اللغة تحدد ثقافة الأمة وتحدد رؤيتها إلى العالم، كما أكد بحق الدكتور الجابري في "نقد العقل العربي"، وكما يؤكد باحثون آخرون من بينهم الأستاذ الحسين وكاك من المملكة المغربية"، حيث يقول: "اللغة حقاً هي الوطن الثقافي الذي يصنع وجدان الأمة (اللغة العربية في الخطاب الإعلامي بالمغرب، أكاديمية المملكة المغربية، ص 250). ولكن– فيما يتعلق بدراسة تطور الفكر- لا نستطيع إسقاط دراسة النزعة الفكرية في أدب العرب، وقد كان الأدب والشعر سائدين في ثقافتهم. أين هو الفكر في أدب المتنبي؟ وأين هو التفلسف في شعر أبي العلاء المعري؟ بل أين التأثر بفلسفات الأمم قبلهما في شعر أبي نواس، وشعراء آخرين، كالطائي والبحتري؟! إذا قارنا بين لغتنا واللغات الأجنبية، خاصةً المنتشرة عالمياً كالإنكليزية، نجد أن العربية تنطوي على "صعوبة" وتعقيد نحوي يصرف الدارس المعاصر عنها إلى تعلم لغات أخرى في عصر تعددت اختصاصاته، وصار لزاماً أن ينصرف الدارس لها إذا أراد نجاحاً دراسياً. ثم إننا نتحدث بلهجات محلية عدة والدارس العربي الصغير لا يلتقي باللغة العربية الفصحى، التي هي المصدر الرئيسي إلا بعد أن يبلغ السابعة أي بعد أن يلتحق بالمدرسة، ورغم نشوء محكية عربية مشتركة– كما تكشف الدراسة الميدانية للحياة اللغوية– فإنها لم تدخل بعد إطار الدراسة ولا ندري كيف يمكن إدخالها! وقد كتبت عن نشوء هذه المحكية العربية في مجلة "العربي" الكويتية قبل سنوات، ثم أكد نشوءها كل من د. عبدالله الغذامي و د. حازم الببلاوي– وهما من نعرف بحثاً وثقافة– الغذامي في إشارته إلى تلك المحكية المشتركة في نجد، وسط المملكة العربية السعودية بعد أن وحدها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود واختلطت اللهجات العربية وتمازجت من مختلف أرجاء الجزيرة العربية، والببلاوي عندما كان في عمّان بالأردن ممثلاً للأمم المتحدة، ولاحظ تمازج اللهجات العربية في محيطها. فماذا سيكون من أمر هذه المحكية العربية الجديدة المشتركة؟ هل ستنافس الفصحى لتحل محلها أم ستدعمها... أم تبقى مجرد لهجة من اللهجات العربية الشائعة؟! أسئلة نطرحها برسم علماء اللغويات واللسانيات، فهل يجيبون عنها بعد البحث في الميدان اللغوي؟ وعلينا أن نقر أن القرآن الكريم قد حفظ اللغة العربية. "فلغته جزء ماهيته"، كما يؤكد بعض علماء الدين الإسلامي، ولا يستطيع المفتي أن يفتي في الدين إلا إذا أجاد العربية، وفي القرآن الكريم ذاته عدة آيات كريمة، تؤكد "عربيته" وأرى أن الموجة الدينية الجديدة من شأنها أن تحافظ على اللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن ولغة التراث الإسلامي، شريطة ألا يطغى الميل إلى لغات المسلمين، غير العربية أو أن تتأثر بها. *** وعلينا أن نقر في النهاية أن اللغة العربية تعاني ضعفاً موضوعياً، حسب تطور العصر وتقنياته، فكيف سنتخطى هذه المسألة؟! تلك هي المسألة!
* أكاديمي ومفكر من البحرين