تاريخ الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (14)

Ad

انهارت سلطة الموحدين عقب موقعة العقاب، وتفككت دولتهم في المغرب الإسلامي في حين انفرط عقد المدن الأندلسية التي استقل بها حكامها، وأوكلت مهمة الدفاع عن الأندلس إلى أهلها في ظل انسحاب بربر المغرب وانشغالهم بالحروب فيما بينهم، في وقت اشتدت الهجمة الإسبانية على بلاد الأندلس، فسقطت الحصون الدفاعية الأمامية تباعا وأصبحت قرطبة وإشبيلية وبلنسية في مواجهة خطر الهجمات الإسبانية مباشرة، وبدا أن الأندلس تخطو خطواتها سريعا صوب النهاية.

على أنقاض سلطة الموحدين في الأندلس التي انفصم عراها في أعقاب الهزيمة القاصمة في معركة العقاب سنة 609هـ، بدأت موجة من الثورات تجتاح المدن الأندلسية بحثا عن الاستقلال عن حكم الموحدين، الذين تخاذلوا عن حماية البلاد، قاد هذا التيار أحد أبناء بيوت الرئاسة في الأندلس، وهو محمد بن يوسف بن هود الجذامي، سليل بني هود حكام إمارة سرقسطة (الثغر الأعلى) في عصر الطوائف، وفي شرق البلاد وتحديدا مدينة مرسية أعلن ابن هود ثورته على الموحدين، ولكي يحصل على دعم معنوي لثورته، راسل الخلافة العباسية في بغداد طالبا الدخول في طاعة الخلافة، واعتباره واليا من قبلها على ما يفتحه من بلاد الأندلس، وبالفعل أرسل الخليفة العباسي المستنصر بالله إليه الخلع والمراسيم، وأنعم عليه بألقاب: مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبدالله المتوكل على الله.

بعد أن حصل ابن هود على شرعية الخلافة العباسية، عمل على توسيع دائرة ملكه فقام بعدد من الحملات الناجحة، انتهت بإقامته لدولة كبيرة ضمت إشبيلية وماردة وبطليوس وجيان وألمرية ومالقا وغرناطة، وبدأت الأنظار تسلط على هذا الحاكم الأندلسي الجديد الذي تعلقت به الآمال ترجو أن يعيد الألق لدولة الأندلس بعد الضياع الكثير من معاقلها، وأن يوحد البلاد من جديد تحت راية أندلسية.

رأى ابن هود في نفسه قائدا أعلى للبلاد بعد أن انضوت معظم قواعد الأندلس الأساسية في دولته، خصوصا بعد طرده لبقايا النظام الموحدي من البلاد، لذلك وضع مهمة منازلة ممالك الإسبان، وتبادل النصر والهزيمة مع ملك قشتالة قبل أن يوقع معه الهدنة في عام 630هـ/1233م.

لم يهنأ ابن هود بزعامته على بلاد الأندلس كثيرا، فقد انفصلت إشبيلية عن دولته والتف أهلها حول زعيم جديد هو القاضي أبو مروان أحمد بن محمد الباجي، بينما ظهر منافس خطير لابن هود في جنوب الأندلس، في غرناطة وهو محمد بن يوسف بن محمد بن خميس النصري المعروف بابن الأحمر، الذي يعود بنسبه إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج بالمدينة، وكان بنو نصر يتوارثون حصن أرجونة بالقرب من مدينة جيان، وعندما رأى الأمير محمد بن يوسف الأحمر أن سلطة الموحدين في الأندلس انهارت، بدأ يعمل على توسيع سلطانه، فسيطر على ولاية جيان كلها، ودخل في معركة حاسمة ضد ابن هود بالقرب من إشبيلية بمساعدة حاكمها القاضي الباجي، واستطاعا أن يهزما ابن هود سنة 631هـ/1233م.

بهذا النصر ثبت ابن الأحمر نفوذه في وسط وجنوب الأندلس، ولم يجد مفرا من عقد الهدنة والصلح مع ابن هود، خوفا من استغلال ملك قشتالة فرناندو الثالث الصراع بينهما للقيام بعمل حربي ضدهما معا، فعقد الصلح بين ابن هود وابن الأحمر، بعد أن أقر الأخير بالطاعة للأول مقابل الاعتراف بسلطته على ما تحت يديه من مدن وحصون.

في تلك الأثناء، كان فرناندو الثالث ملك قشتالة يتابع مصير الحوادث في بلاد الأندلس، ويترقب لحظة مناسبة للهجوم على هدفه الذي حدده، فقد وضع نصب عينيه مدينة قرطبة، عاصمة الخلافة الأموية السابقة، وأحد أهم المعاقل الإسلامية في الأندلس، لذلك كثف ملك قشتالة من هجماته وغزواته، يعيث في أراضي الأندلس فسادا، بهدف إرهاق المسلمين استعدادا لإنزال ضربته الكبرى بقرطبة، ولم يجد ابن هود إلا أن يعقد معه هدنة لمدة ثلاث سنوات، مقابل أن يدفع له 130 ألف دينار.

وكانت الأحداث داخل قرطبة تساعد فرناندو على مد بصره صوب المدينة، فمنذ انهيار سلطة الموحدين، والمدينة في اضطراب لا سلطان لها، تميل مرة لابن الأحمر ثم تدخل بعدها في سلطان ابن هود، ولا يتفق أهلها على رأي، ولا تسلم زمامها لمن يستحق وتمكنه قدرته وكفاءته من النهوض بها، وتفتك الخصومات والأحقاد بها.

اشتداد الحصار

في تلك الظروف خرجت جماعة من فرسان قشتالة، تقدرهم الروايات ببضع عشرات في ربيع الآخر سنة 633هـ،/1236م، صوب قرطبة، وقد وصلت إلى مسامعهم أنباء الفوضى داخل قرطبة، واحتموا بظلام الليل وخيانة بعض الغاضبين من الفرق المتخاصمة داخل المدينة ونجحوا في الاستيلاء على المنطقة الشرقية من المدينة التي تعرف بالربض الشرقي، جاءت حامية المدينة سريعا لطرد الغزاة إلا أنهم تحصنوا بأبراج الحي، فقد كانت المدينة مقسمة إلى خمسة أقسام يفصل بين كل قسم وآخر سور منفصل.

بعث الجنود القشتاليون برسائل استغاثة للملك فرناندو الثالث، الذي رأها فرصة ثمينة لا تعوض، فنسي هدنته مع ابن هود، وخرج على رأس قوة سريعة قدرت بمئتي فارس صوب قرطبة، وأمام المدينة العريقة بدأت حشود فرسان قشتالة تتجمع، وبدأت عملية الحصار تشتد على المسلمين داخل قرطبة، الذين أرسلوا لابن هود طلبا للنجدة باعتباره حاكم المدينة الشرعي، فاستجاب لهم حين علم بالخطر الداهم الذي يحيط بالمدينة العريقة، وخرج في جيش كبير من بلنسية إلى قرطبة، وعسكر على مقربة منهم، وكان أهل قرطبة ينتظرون مقدمه واشتباكه مع النصارى في موقعة فاصلة، وبدلاً من أن يفعل ذلك ظل واقفًا في مكانه لا يحرك ساكنًا، ولا يتحرش بهم، ولو أنه اشتبك معهم لحقق نصرا كبيرا بخسائر قليلة، ولربما سقط في يده ملك قشتالة نفسه إما أسيرا أو قتيلا، لأن قوات الإسبان لم تكن كبيرة، معظمها من المتطوعين، والقوات النظامية فيها لا تتجاوز المئتي فارس.

احتار المؤرخون في موقف ابن هود وتخاذله عن نجدة قرطبة رغم استطاعته، وتوافر 35 ألف مقاتل تحت يديه، فبين من قال إن سوء الجو وقسوة الشتاء وفيضان الأنهار حال دون اشتباك ابن هود مع القوات المحاصرة لقرطبة، وبين من يرى أن أحد مستشاري ابن هود كان قشتاليا ضخّم من حجم الجيش القشتالي في نظر ابن هود وأكد له استحالة هزيمته، رغم كثرة المبررات إلا أن الحقيقة تظل أن ابن هود تخاذل عن نجدة قرطبة وأهلها، تاركا المدينة تلقى مصيرها المشؤوم.

اشتد الحصار وامتد أشهراً طويلة، صمد خلالها أهل قرطبة، حتى نفدت موارد المدينة المنكوبة ونضبت خزائنها، واضطر زعماء المدينة إلى طلب التسليم على أن يخرجوا آمنين بأموالهم وأنفسهم، فوافق الملك على هذا الشرط.

وفي يوم 23 من شهر شوال سنة 633هـ/ 29 يونيو 1236م، دخلت قوات قشتالة المدينة التليدة، وعلى الفور رفع الصليب على قمة مأذنة جامعها الأعظم أكبر مساجد الأندلس قاطبة، وحول إلى كنيسة، وصمت الأذان إلى الأبد بعد أن كان يصدح في سماء المدينة طوال خمسة قرون وربع القرن، وفي اليوم التالي دخل فرناندو قرطبة في كوكبة من جنوده وأتباعه، وهو لا يصدق أن ما خطط له من دخول المدينة العظيمة تحقق بأقل مجهود وبلا سعي منه. سقطت قرطبة وبسقوطها انفرط عقد العديد من المدن القريبة مثل إستجة والمدور وإشتبة وبيانة وإجيلار ومرشانة وقبرة وأشونة واللسانة ومورور، وكانت صدمة سقوط قرطبة عنيفة قاسية فألجمت ألسنة الشعراء والأدباء فلم يصل لنا أي عمل أدبي ينعى سقوط المدينة التي كانت أنوار العلم والأدب يوما تشع في أرجاء أوروبا كلها.

كان سقوط قرطبة ضربة كبيرة لنفوذ ابن هود باعتباره حاميا حمى الأندلس، الذي توفي سنة 635هـ، لتنهار بوفاته دولته التي لم تعمر طويلا، فأدرك ابن الأحمر أن الحظ تبسم في وجهه بعد طول عبوس، وبدأ على الفور بمهاجمة غرناطة التي دخلها وجعلها حاضرة ملكه في نفس العام، وتوسع ابن الأحمر في الجنوب فسيطر على ألمرية ومالقة، وبدأت معالم مملكة جديدة تظهر للوجود قدر لها أن تجمع أشلاء الأندلس المنهارة في رحابها، وقدر لها أن ترث هذا التراث الضخم للأمة الأندلسية المسلمة، وأن تحافظ عليه طوال قرنين ونصف القرن.

وهربا من مواجهة يعلم جيدا خسارتها، طلب ابن الأحمر الصلح مع ملك قشتالة على أن يكون تابعا له يعترف بالطاعة له على سائر ما يحكمه من الأراضي، وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مئة وخمسون ألف مرافيدي (عملة قشتالة آنذاك).

قادة مفكرون

في هذه الأثناء، استمرت بلنسية عاصمة شرقي الأندلس في الاحتفاظ بتفوقها ورياستها، لكنها عرفت في أواخر عهدها الإسلامي رهطا من القادة والمفكرين، الذين برزوا من غمار الفتنة وشهدوا سقوط الوطن القديم ثم غادروه إلى الضفة الأخرى من البحر، مؤثرين أن يعيشوا في آفاق كريمة حرة، على أن يبقوا تحت نير الحكم الجديد.

وكان بين هؤلاء سياسي ومفكر بلنسي، عاصر أحداث المحنة واشترك في معظم أطوارها وأسهم في عدة محاولات بذلت لإنقاذ الوطن المنكوب ثم شهد في النهاية تسليم هذا الوطن إلى قاهره وسيده الجديد عاهل أراجون خايمي الأول.

هذا المفكر والسياسي هو ابن الآبار القضاعي وهو شخصية من أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي في تلك المرحلة القاتمة، وهي مرحلة السقوط والانهيار التي تشغل النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي.

ولد أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الآبار، في بلنسية في ربيع الثاني عام 595هـ/ فبراير 1199م في بيت علم ونبل، وأصلهم من أندة الواقعة على مقربة من غربي بلنسية، التي ينتسب إليها كثير من العلماء، ودرس الحديث والفقه على أقطاب عصره، وبرع كذلك في اللغة والأدب وشغف بالأخبار والسير ورحل في مطلع شبابه إلى غرب الأندلس فزار قرطبة ثم إشبيلية وهو يأخذ أينما حل عن أساتذة العصر. ولما توفي أبوه في سنة 619هـ/ 1221م كان هو لا يزال بغربي الأندلس في مدينة بطليوس عاكفا على دراساته، فعاد عندئذ إلى بلنسية موطنه ومثوى أسرته.

تولى ابن الآبار في شبابه قضاء دانية، ولكن القدر كان يخبئ له الكثير، فلم يمر وقت طويل حتى رفع أهل بلنسية راية العصيان ضد حاكمها الموحدي الذي غادرها هو وأهله ومعه كاتبه ابن الآبار سنة 626هـ/1229م، وتولى أبو جميل زيان بن مدافع مقاليد الحكم بها، واشتد ألم ابن الآبار وهو يغادر مدينته التي نشأ فيها فقال:

الحـمـد لله لا أهـل ولا ولـد ولاقرار ولا صبر ولا جلد

كان الزمان لنا سلما إلى أمد فعاد حربا لما انقضى الأمد

لم يجد حاكم بلنسية الموحدي الهارب إلا ملك أرجوان الإسباني يتحالف معه لعله يعيده إلى حكمه مرة أخرى، فما كان من ملك أرجوان الإسباني إلا أن استخدمه كمخلب قط استطاع أن يمد من خلاله نفوذه على أراض جديدة من بلاد الأندلس المسلمة.

لم يرض ابن الآبار عن تصرفات سيده وتحالفه مع الأعداء مقابل مكاسب وقتية، فغادر سيده الموحدي وعاد إلى بلنسية يقف مع أهلها ضد هجمات الإسبان، فتولى عند حاكمها الجديد منصب الكتابة.

اشتدت قوة الهجمات الإسبانية فسقطت عاصمة الأندلس المسلمة قرطبة سنة 633هـ/1236م، وأخذت القوى الإسبانية في الاستعداد للانقضاض على بلنسية، بدأت القوات الإسبانية هجومها على بلنسية وأخذت في حصار المدينة بعد هزيمة الجيش المدافع عنها سنة 634هـ/1237م، ومع شدة الحصار لم يجد حاكمها بداً من طلب مساعدة أهل الإسلام في المغرب العربي، خصوصا ملك إفريقية (تونس الحالية) القوي الأمير أبو زكريا بن عبدالواحد الحفصي فأرسل ابن الآبار على رأس وفد إليه، ليلقي ابن الآبار على مسامع الملك قصيدته السينية الشهيرة التي تعد من أروع قصائد الشعر في طلب نجدته ومعونته ومطلعها:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا

وهب لها من عزيز النصرما التمست فلم يزل عز النصر منك ملتمسا

وحاش مما تعانيه حشـاشـتـها فطال ما ذاقت البلوى صباح مسا

ياللجزيرة أضحى أهلها جزرا للنائبات وأمسى جدها تعسا

ففي بلنسية منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا

مدائن حلها الإشراك مبتسما جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا

وصيرتها العوادي العابثات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا

يا للمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناءها جرسا

ونتيجة لهذه القصيدة التي أبكت الملك وكل الحضور، أمر ملك الحفصيين بإعداد أسطول ضخم محمل بالأسلحة والإمدادات إلا أن هذا الأسطول لم يستطع أن يفك الحصار المضروب حول المدينة، فتركت المدينة لمصيرها المحتوم، والذي انتهى بتسليم المدينة في صفر سنة 636هـ/ سبتمبر1238م، ليسقط بسقوطها مدن وحصون المشرق الأندلسي تباعا خلال أعوام قلائل، وكان الختام بسقوط مدينة مرسية في يد ملك أراجوان سنة 664هـ/1266م.

لم يستطع ابن الآبار أن يحتمل البقاء في الأندلس ليشهد انهيار هذا الصرح مدينة مدينة، وقلعة قلعة، فغادر إلى تونس حيث مكث في بلاط عاهلها المستنصر بالله، وبعد أن عاش في ظله، لكن نتيجة الوشايات والدسائس انقلب عليه السلطان فأمر بجلده ثم قتله، فضرب بالسياط وقتل طعنا بالرماح، وأخذت كتبه وأحرقت مع جثته في موضع قتله، وجرت فصول هذه المأساة سنة 658هـ/1260م واختتمت بذلك حياة أعظم شخصية في الأدب الأندلسي في القرن السابع الهجري.

بعد أن توالى سقوط قواعد الأندلس الكبرى، في سنوات قلائل بات من حكم المؤكد أن دولة الإسلام في الأندلس قد انهارت، ولم تعد قوة يحسب حسابها في ظل ارتفاع قوة مملكة قشتالة بحيث أصبحت القوة الرئيسية في شبه الجزيرة الإيبيرية، ورغم احتفاظ مملكة غرناطة في جنوب البلاد بالرمق الأخير من عمر دولة الإسلام في الأندلس، كانت إشبيلية العظيمة تواجه وحدها الهجمة الإسبانية، ورغم حصونها الضخمة وأسوارها المتينة، لم تكن أكبر مدن الأندلس وقتذاك، بمنجى عن الخطر الذي بات يتهددها، فقد وجه ملك قشتالة قواته إلى الحصون المحيطة بإشبيلية لإسقاطها تباعا استعدادا لهجومه النهائي على المدينة ذاتها.

بدأت جيوش قشتالة في محاصرة إشبيلية في جمادى الأولى سنة 645هـ، من البر تمركزت حشود فرناندو الضخمة في حين رابط أسطول كبير في مدخل نهر الوادي الكبير لإحكام الحصار على المدينة، وقطع صلتها بالعالم الخارجي، ورغم إصرار أهالي إشبيلية على المقاومة وإظهارهم لدروب الشجاعة والجلد على الحصار، فإن قلة المؤن وانعدام النصير كانا من العوامل التي أودت بمعنويات أهالي إشبيلية بعد أن دام الحصار ثمانية عشر شهراً، فاضطر أهل إشبيلية إلى قبول مصيرهم المحتوم وارتضوا تسليم المدينة على أن يؤمن المسلمون في أنفسهم وأموالهم وأن يمهلوا لتسوية شؤونهم وإخلاء دورهم والتأهب للرحيل، على أن يقوم ملك قشتالة بنقلهم على سفنه للأماكن التي يتخيرونها.

على الفور قبل فرناندو تلك الشروط، ودخل المدينة في 5 رمضان سنة 646هـ في موكب فخم، وذلك بعد أن حكمها المسلمون أكثر من خمسة قرون، وبمجرد دخوله إشبيلية أصدر أمره بتحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة وإزالة معالم الإسلام منها بسرعة، وكان سقوط إشبيلية إيذاناً بسقوط سائر بلاد الأندلس الغربية وتقلصت رقعة الدولة المسلمة في الأندلس بسرعة تثير الحسرة والألم، وأثار ضياع قواعد الأندلس في نفس شاعر العصر صالح بن شريف الرندي مرثيته الشهيرة التي خلدت ضياع الأندلس، فقال:

لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان

يمزق الدهر حتما كل سابغة وإذا نبت مشرفيات وخرصان

آتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان

وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان

دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وأنهد ثهلان

أصابها العين في الإسلام فارتزأت حتى خلت منه أقطار وبلدان

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان

وأين قرطبة دار العلم فكم من عالم قد سما فيها له شان

وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن

قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان

لم يبق للإسلام دولة في الأندلس إلا في الركن الجنوبي، وحدها مملكة غرناطة تحمل راية الإسلام وتواجه خطر الزوال، ولتفتح صفحة جديدة في تاريخ الأندلس قدر لها أن تكون آخر الصفحات.