يسير الزمن باتجاه واحد، ومعه يسير التطور الطبيعي للأمور، ومن الممكن إبطاء حركتهما ولكن ليس ممكناً إيقافها أو عكسها، والرابح هو من ساير الزمن وتطور معه وتعلم من أخطاء الماضي، ويبدو أن حكومتنا تعاكس الزمن وتعيد ارتكاب الأخطاء ذاتها بتعاملها مع قضية "البدون"، ويُرى ذلك من خلال الخطاب الإعلامي المستفز للجهاز المعني بمعالجة القضية، ومناورات الحل- وليس الحلول- التي يطلقها والقائمة على التركيز على المتلاعبين بدلاً من حسم تجنيس المستحقين باعترافه، وقمع التظاهرات والتعسف مع المحتجزين والالتفاف على أحكام براءتهم لدى القضاء وإرهاب أهالي الناشطين منهم، والتشويه المنظم لأصحاب القضية بدءاً من الاستمرار بتسميتهم "مقيمون بصورة غير قانونية" وانتهاء بملء صفحات الجرائد الأخيرة بأخبار "القبض على بدون يفعل كذا".
القضية تحلحلت أخيراً، ليس بفضل الحكومة أو المجلس، بل لأن أصحابها – البدون أنفسهم – استعادوا قيادتها من خاطفيها وأقصوا المتاجرين بها، فبدأوا حراكاً إنسانياً وانضم إليهم الحقوقيون الحقيقيون ليوفروا لهم مصداً للسهام الطاعنة بمشروعية مطالبهم، متسلحين بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، كل ذلك أمام أعين المنظمات الإنسانية الدولية التي أصبحت تولي القضية اهتماماً أكبر، ويمثل الربيع العربي بحِراكاته ومكاسبه وقصص تضحياته مصدر إلهام لهم لن يتوقف قريباً. كلما ماطلت الحكومة بالحل فقدت مزيداً من التأثير فيه، فهي قريباً ستدخل مرحلة "فهمتكوا فهمتكوا" وكلنا نعرف مدى تأخرها، لذلك بدلاً من المكابرة وتعميق الهوة أكثر يجب على الحكومة أن تبدأ بالتخطيط لاستيعاب "البدون" المستحقين للجنسية أو الإقامة الدائمة (وهم أغلبية بإقرار الحكومة) بالمجتمع وتعويضهم عن كل ما فاتهم، فحمل مشاعر الغبن نتيجة ظلم الدولة وتوريثها للأجيال يعود بنتائجه السلبية على الدولة والمجتمع ككل. والأهم من استيعاب "البدون" بالمجتمع هو تهيئة مؤسسات الدولة والمجتمع لتقبلهم كمواطنين ومقيمين لا يقلون أحقية أو شرعية عن غيرهم، فلا يكفي منح وثيقة جنسية أو إقامة لحل القضية، ولتكن تجربة تجنيس السبعينيات وما ترتب عليها من مشاكل اجتماعية وثقافية تتعلق بالقبول والأحقية والشرعية نعاني منها حتى يومنا هذا درساً.خلال العام الماضي رأينا كيف لم تصمد الحكومة أمام نشاط أطلق عليه مجازاً اسم "حراك" ارتكز على مناهضة شخص وتوقف في العطلة الصيفية، بدأته مجاميع شبابية متشتتة، واختطفه نواب وسياسيون انتهازيون وفاقدون للشرعية والمصداقية ويفتقرون لأي رؤية أو مشروع، فما بالك لو واجهت الحكومة أصحاب قضية عادلة، وقودهم عقود من الظلم المتراكم، ليس لديهم ما يخسرونه ولا طريق لديهم للتحرك الا إلى الأمام، متسلحين بالإصرار والإبداع في حراكهم، وباتوا أكثر من أي زمن مضى مستعدين للتضحية. هناك خط فاصل يُرسَم عند كل منعطف تاريخي في مسيرة تطور المجتمعات اجتماعياً وثقافياً، من يجرؤ على القفز للأمام فوق الخط يساير الزمن باتجاهه الصحيح، ومن يبقى خلفه يعرض نفسه لسخط التاريخ، وأعتقد أننا الآن عند منعطف تاريخي بالنسبة لقضية "البدون". إن تصحيح هذا الوضع الشاذ وغير الإنساني قادم لا محالة، هكذا اتجاه الزمن وهكذا طبيعة الأمور، وعلى الدولة ممثلة بحكومتها، وعلينا كمجتمع، الاختيار بأي جانب من التاريخ نريد أن نكون.
مقالات
البدون ... بين جانبي التاريخ
17-05-2012