في أنحاء من أوروبا والشرق الأوسط تصل نسبة البطالة إلى أكثر من الربع بين السكان في سن يراوح بين 15 سنة و24 سنة. وفي بعض البقاع القاتمة السوداء مثل إسبانيا ومصر تصل معدلات البطالة إلى أكثر من النصف. وبشكل إجمالي تبلغ أعداد العاطلين بين الشباب من تلك الفئة على مستوى العالم 75 مليون نسمة، كما تصل أعداد ذوي المهن المتدنية إلى مثلي ذلك الرقم. ولا يمثل هذا الأمر خسارة هائلة للطاقة المنتجة حين يتحول الناس في مقتبل العمر إلى معالين يعتمدون على الغير فحسب، بل إنه يمثل أيضاً مصدراً محتملاً للاضطرابات الاجتماعية ومسبباً يومياً للذعر والتوتر. ويطلق اليابانيون على الـ700 ألف الذين انسحبوا خارج المجتمع لفظ "هيكيكوماري" باللغة اليابانية بمعنى "الشرانق المحلية".

Ad

ومع ذلك فإن الشركات تشتكي بقوة في الوقت ذاته من عدم قدرتها على تشغيل الأشخاص المناسبين. وفي وقت سابق من هذه السنة قالت "مانباور"، وهي شركة خدمات توظيف للأيدي العاملة، إن أكثر من ثلث أرباب العمل في شتى أنحاء العالم تعرضوا لمتاعب تتعلق بملء شواغر العمل. ولا تقتصر ضغوط نقص المهارات على الميادين البارزة مثل الهندسة بل ينسحب ذلك على الوظائف ذات المستويات المتوسطة مثل إدارة المكاتب. قبل أيام، قالت شركة "ماكينزي" الاستشارية إن 43 في المئة فقط من أرباب العمل في تسع دول أجرت فيها دراسات كثيفة ومعمقة (الولايات المتحدة، وألمانيا، والبرازيل، وبريطانيا، والمكسيك، والهند، والمغرب، والسعودية، وتركيا) يعتقدون أن في وسعهم الحصول على عمالة ذات مهارة كافية في المستويات الوظيفية الأولية. وتشير الدراسة إلى أن الشركات ذات الحجم المتوسط (التي يتراوح عدد العاملين فيها ما بين 50 إلى 500 شخص) كان لديها وظائف شاغرة في حوالي 13 درجة وظيفية في المتوسط، بينما يرتفع هذا الرقم في الشركات الكبرى إلى 27 درجة في المتوسط.

التعليم المهني

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما الذي يجري؟ وما الذي نستطيع القيام به إزاء هذا الحال؟ وتجادل شركة "ماكينزي" بشكل مقنع في أن جانبا مهما من المشكلة يتمثل في كون المعلمين وأرباب العمل يعملون في مسارات متوازية لا تلتقي، لذا فإن جزءاً كبيراً من الحل إنما يكمن في الجمع بين تلك العوالم المتوازية، بمعنى أنه يتوجب إلزام المعلمين باقتفاء أثر أرباب العمل الذين يتعين عليهم الاقتراب أكثر فأكثر من المربين التعليميين، كما يتعين على الطلاب الحركة في الهامش المتاح بين الجانبين.

والطريقة الأمثل لتحقيق مثل هذه الغاية تتمثل في إنعاش التعليم المهني الذي كثيراً ما يتعرض للإهمال الشديد في معظم الدول باستثناء ألمانيا، فالحكومات اعتادت ضخ المزيد من الأموال في الجامعات التي سعت من جانبها إلى التنافس وإبراز أفضل ما لديها من قدرات ومواهب. وكان من نتيجة ذلك مقاطعة الآباء وأولادهم وسلالتهم للمدارس المهنية: فقد اختار العديد من الطلاب الذين شملتهم دراسة شركة "ماكينزي" الاستشارية التوجه إلى جامعات أكاديمية، رغم الظن أن المدارس المهنية ستوفر لهم المزيد من فرص العثور على عمل.

الهاجس الأكاديمي

وتشير دراسة شركة "ماكينزي" إلى أن بعض الدول ذات البصيرة البعيدة المدى وكذلك المدارس والشركات انخرطت في عملية مميزة هادفة لإعادة اختراع التعليم المهني وتطويره. وقد أنشأت كوريا الجنوبية شبكة من المدارس المهنية يطلق عليها مدارس "ميستر"، والكلمة مأخوذة من اللغة الألمانية وتعني "الحرفي الرئيسي"، وذلك بهدف تلبية العجز الذي تعانيه البلاد في مجالات مشغلي الآلات والسباكين. وتقوم الحكومة بدفع تكاليف الطالب من سكن ورسوم دراسة، كما أنها تشير إلى أولئك الطلاب باسم "الحرفي الرئيسي الشاب"، وذلك بهدف مواجهة سيطرة الهاجس الأكاديمي والتعليم الجامعي على عقول الشباب داخل البلاد- حيث يوجد في كوريا الجنوبية أحد أعلى معدلات في العالم للالتحاق بالتعليم الجامعي.

وتقوم المدارس الفنية ببناء نسخة مطابقة تماماً لأماكن العمل، بغية تسهيل اجتياز الفجوة بين التعليم النظري والمجالات العملية؛ وفي معهد التقنية "تشالنجر" في بيرث في أستراليا توجد نسخة مقلدة تماماً لمصنع معالجة الغاز (ما عدا الغاز)، وتقوم الشركات المتعطشة للمواهب بعقد اتفاقات مع الحكومات من أجل المزج بين الجوانب التعليمية العملية من جانب والأكاديمية على الجانب الآخر؛ وفي مصر ترعى مجموعة "أميركانا" وهي شركة غذائية ومطاعم، برنامجاً يسمح للطلاب بتمضية ما يصل إلى نصف وقتهم في العمل في محلات "أميركانا" (مع الحصول على أجر)، والنصف الآخر من وقتهم في الجامعة.

الشركات الرائدة

ويتمتع صناع السياسة أيضاً بقدر من النجاح في استخدام التعليم المهني من أجل بلوغ الوصول إلى الجماعات والفئات المهمشة في المجتمعات. ففي جنوب إفريقيا، انطلق برنامج تحت شعار "التوجه نحو الذهب" بشراكة بين وزارة التربية في إقليم "ويسترن كيب" ومجموعة "إن إم سي" الإنشائية، لانتقاء أطفال المدارس الواعدين وإدماجهم في برامج تدريب إضافية، لإكسابهم خبرات عملية بأجور مدفوعة الأجر سنوياً، فضلا عن إتاحة فرص الحصول على منح جامعية.

وفي الهند يقوم "معهد التعليم والتدريب المهني" بإرسال اختصاصيين إلى القرى والمناطق النائية، للحديث مع العائلات وعرض فرص عمل تتيحها شركات قيادية ورائدة في الأسواق مثل فنادق "تاج" و"لارسن أند توبرو".

بالطبع سيكون من السهولة بمكان التشكيك في مدى جدوى مثل هذه المحاولات الرامية إلى ردم الهوة بين التعليم والتوظيف. ويعتبر الانجراف الأكاديمي واحداً من أكثر العوامل تأثيراً على الحياة التعليمية: ولننظر إلى المستوى الذي انحسرت إليه المدارس الفنية في بريطانيا، إضافة إلى تحول معاهدها الفنية والتطبيقية المعروفة والشهيرة إلى جامعات!

«الألعاب الجادة»

رغم ذلك، هناك من التطورات ما تدعو إلى التفاؤل، من بينها أن التكنولوجيا في حد ذاتها تسهم بقدر كبير في خفض تكاليف التعليم المهني، وهي الجزئية التي كانت على الدوام أحد أكثر المسببات الرئيسية التي قلصت من فرص انتشاره وانتعاشه. فقد أصبح بوسع الشاب حالياً أن يحصلوا على الخبرات المهنية اللازمة بتكلفة طفيفة عبر برمجيات "الألعاب الجادة" رغم الطابع الافتراضي لها. كما أن كلية "ميامي داد"، وهي أكبر كلية مجتمعية في الولايات المتحدة، لجأت إلى طرح نظام يبعث برسائل تحذير آلية إلى مستشاري الكلية وطاقم التعليم عندما يقع أحد خريجيهم في هفوة أو خطأ فني عبر خط خاص لتلقي الشكاوي من الخريجين. ومن جانبه يوفر مرصد كولومبيا للعمل تفاصيل حول معدلات التخرج والتوظيف في كل واحدة من المؤسسات التعليمية في البلاد.

أما السبب الثاني الذي يدعو إلى التفاؤل فيتمثل في إقبال المزيد والمزيد من مؤسسات القطاع الخاص على تقديم أفكار تستهدف تحسين التدريب المهني وتطويره. وتتخصص شركة "التدريب المهني القابضة" في الصين في الربط بين الطلاب الخريجين والوظائف في صناعة السيارات الصينية، من خلال تجميع قدر هائل من المعلومات والبيانات عن الطلبة والشركات في آن معاً. وقد أنشأت "موزيلا" التي قامت بانشاء منصة "فايرفوكس" للتصفح على الشبكة العنكبوتية "مبادرة الشارات المفتوحة" التي تتيح للمستخدمين نيل اعتراف منها وشهادة أو شارة تفيد بمهاراتهم في مجال البرمجيات. وتعطي "آي إل أند إف إس"، وهي شركة تدريب هندية، الطلبة ضمانات بالحصول على فرصة عمل بعد إنهاء دوراتها التدريبية.

ربما لن يقدم التعليم المهني علاجاً شاملاً لأزمة التشغيل وتصاعد معدلات البطالة عالمياً، فهناك ملايين الشبان معرضون للبطالة

مادام استمر الاقتصاد العالمي يعاني تباطؤاً في مستويات الطلب وانكماشاً في معدلات النمو، غير أن ذلك قد يساعد على الأقل في معالجة التباين الصارخ في أوضاع العالم المتفاقمة ليست بسبب نقص فرص العمل فحسب، بل بسبب شح المهارات وضعفها أيضاً!