تقسيم سورية فرصة تاريخية بالنسبة إلى تركيا
إذا استمر الصراع في سورية من دون رادع وأدى إلى حرب طائفية شاملة بين العلويين والسنّة وتوتر إثني عنيف بين العرب والأكراد، فمن المتوقع أن يتحقق السيناريو الأقرب إلى النموذج العراقي، حيث نشأت مناطق تتم السيطرة عليها بشكل شبه مستقل.
بعد مرور سنة ونصف على بدء الحرب الأهلية السورية، يشهد الفصل الأخير من الأحداث أعمالاً عدائية مسلحة بين سورية وتركيا التي كانت دولة صديقة لنظام الأسد سابقاً. منذ قرن من الزمن، كانت القوى الغربية هي التي فككت وقسّمت السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. اليوم، يمكن أن تتولى تركيا دور القيادة لترسيم الحدود على خارطة الشرق الأدنى الناشئة.يشير وقوع سورية في الفوضى إلى أن تقسيم البلد أصبح نتيجة محتملة جداً (على عكس وضع ليبيا في الوقت الراهن)، إلا إذا سقط نظام الأسد، فإذا استمر الصراع في سورية من دون رادع وأدى إلى حرب طائفية شاملة بين العلويين والسنّة وتوتر إثني عنيف بين العرب والأكراد، فمن المتوقع أن يتحقق السيناريو الأقرب إلى النموذج العراقي، حيث نشأت مناطق تتم السيطرة عليها بشكل شبه مستقل.من المتوقع أن تبقى حلب ودمشق مرتبطتين مع أنهما قد تسيران في اتجاهين مختلفين بسبب الروابط التجارية القائمة. سينشأ أيضاً معقل درزي في الجنوب، وفي الوقت نفسه، سينسحب العلويون، أو على الأقل الأشخاص الذين نجوا من الكوارث المأساوية المؤسفة، إلى معقلهم التقليدي في محيط مرفأ اللاذقية على المتوسط. لكنّ أهم عامل بالنسبة إلى تركيا هو مصير المعاقل الكردية في سورية. يشكّل الأكراد بين 10 و20% من الشعب السوري، وهم يُعتبرون عامل ضغط يدفع باتجاه إنشاء منطقة كبرى يسيطر عليها الأكراد ويتمتعون فيها باستقلالية تامة مع حلفائهم في العراق، وذلك نظراً إلى تمركز أكبر عدد من أكراد سورية في الشمال، على طول المناطق الحدودية التركية، وتمتد نقاط التمركز شرقاً نحو العراق.فضلاً عن ذلك، من المعروف أن أكراد تركيا وسورية والعراق (أقله الأشخاص الذين يعيشون في شمال غرب العراق، على طول الحدود مع تركيا وسورية) يتشاركون اللغة نفسها. يتحدث هؤلاء الأكراد باللهجة الكرمانجية، بما يختلف عن لهجة الأكراد في إيران وفي شمال شرق العراق. هم يتحدثون باللهجة السورانية التي تختلف بشدة عن اللهجة الكرمانجية بقدر ما تختلف اللغة البرتغالية عن الإسبانية.من المتوقع أن يتطلع أكراد سورية إلى تركيا بحثاً عن الدعم، ولا شك أنهم سيقدرون أهمية دور تركيا كقوة تتصدى للنزعة القومية العربية، إنه درس تعلّموه سريعاً من أكراد العراق الذين لجؤوا إلى تركيا للاحتماء من حكم بغداد منذ عام 2010.بسبب هذا الوضع، أصبحت تركيا أمام خيار حاسم، لطالما كانت ترفض فكرة نشوء دولة كردية مستقلة أو كيان كردي مشابه في أي مكان من المنطقة خوفاً من أن تطالب الجماعات الكردية في تركيا بالأمر نفسه. لكن يمكن أن تتغير حساباتها بسبب غياب الاستقرار في الدول العربية السنية المجاورة ونظراً إلى الحاجة إلى التصدي لمحور إيران الشيعي الذي بدأ يمتد راهناً من بغداد إلى نظام الأسد و»حزب الله» في لبنان. يقدم خيار «بلقنة» سورية فرصة تاريخية لتركيا.تتعدد الأسباب الفورية التي تبرر الدعم التركي للكيان الكردي المستقل في سورية، ويفسر القصف على الحدود التركية السورية السبب الذي يجعل تركيا أفضل حالاً إذا نشأت مناطق عازلة مثل كردستان بدل التمسك بالوقائع الجغرافية المبهمة السائدة اليوم. مع انهيار سلطة الأسد بوتيرة متسارعة في شمال غرب سورية، يبدو أنه غير مهتم بمنع حزب العمال الكردستاني من استعمال الأراضي السورية (إنها الجماعة المتشددة التي تقود القتال في سبيل استقلال الأكراد في تركيا والتي ارتكبت اعتداءات إرهابية متعددة هناك). لذا يجب أن تؤيد تركيا قيام حكومة جديدة مركزها حلب، شرط أن تسعى تلك الحكومة إلى إرساء الاستقرار والنظام على أراضيها وأن تتصرف بطريقة مسؤولة، كما تفعل حكومة إقليم كردستان، لكبح ميليشيات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. اليوم، تتلقى قوات الدفاع عن النفس الكردية التدريبات من قوات البشمركة في كردستان العراق.بغض النظر عن قدرة أكراد سورية أو استعدادهم لكبح حزب العمال الكردستاني، تعلمت أبرز جهة سياسية كردية في سورية (حزب الوحدة الديمقراطي) من العراق المجاور أن السنّة سيتوحدون على الأرجح في وجه الحكم الكردي الذاتي. بالتالي، بينما يتابع حزب العمال الكردستاني محاربة تركيا، فقد يقرر الفرع السوري التابع لذلك الحزب إقامة الصداقات مع أنقرة.كما يحدث في كردستان العراق، قد تكون شركات البنى التحتية التركية من أبرز المستفيدين من الاستثمار في المنطقة الكردية السورية بعد سقوط الأسد لأنها ستكسب عقوداً مهمة كما فعلت في كردستان العراق بعد سقوط صدام. عملياً، كانت الشركات التركية هي التي بنت كردستان العراق، فقد رصفت طرقاتها وصممت مطاراتها ونقّبت عن نفطها وبنت مدنها، ولا ننسى أنها كانت المنفذ الضروري لتصريف موارد الطاقة في كردستان العراق. كذلك، ستكون تركيا شريكة تجارية ضرورية لأي كيان محصور ينشأ بعد سقوط الأسد، ولا شك أن تحوّل تركيا إلى المنافِسة الأولى في العراق، باعتبارها اقتصاداً متقدماً في المنطقة المجاورة، سيصب في مصلحتها في سورية أيضاً بعد سقوط الأسد.على ضوء هذه الأسباب المقنعة التي تبرر دعم الكيان الكردي المستقل في سورية، قد تقتنع تركيا بالتخلي عن معارضتها القديمة للاستقلال الكردي في المنطقة، لكن يبرز عائق أساسي في وجه تركيا وقد يمنعها من الاستفادة من هذه التطورات: إنه الشعب الكردي الموجود في تركيا، فهو كان يسعى دوماً إلى كسب استقلاله.بينما تعقد تركيا صداقات جيدة مع أكراد سورية والعراق، يجب أن تركز أيضاً على إرضاء الأكراد الأتراك الغاضبين. لقد أثارت القومية الكردية الناشئة في أنحاء المنطقة حماسة الأكراد في تركيا أيضاً.شهدت تركيا تجدد اعتداءات حزب العمال الكردستاني في الفترة الأخيرة، وقد ذهبت تلك الجماعة إلى حد إطلاق حملة جريئة (تم إحباطها) للاستيلاء على بلدات في جنوب شرق البلاد، وعلى المستوى السياسي، زاد استياء الأكراد بسبب فشل أنقرة في عام 2009 في توفير حقوق ثقافية إضافية لمصلحة الأكراد، ولا شك أن هذه المشاعر ستنعكس خلال الانتخابات المحلية في عام 2013، حين يستعيد حزب السلام والديمقراطية القومي الكردي السيطرة على مدن كبرى في جنوب شرق تركيا.سيصعب على تركيا أن تبني علاقة قوية مع أكراد سورية والعراق إذا بقي أكراد تركيا معزولين عن أنقرة، فبينما تسعى أنقرة إلى فرض نفوذها في سورية والعراق، يجب أن تعقد السلام مع الجماعات الكردية المحلية في المقام الأول. إذا كان الاستقلال هو الطريقة المناسبة لحل قضية الأكراد في العراق وسورية، فيكمن الحل بالنسبة إلى أكراد تركيا في توسيع هامش الديمقراطية. اليوم، يسود جدل في تركيا حول صياغة أول دستور مدني تركي، وهذا ما يمنح البلد فرصة تاريخية لإنشاء شرعة ليبرالية حقيقية توسّع حقوق الجميع، بما في ذلك الأكراد.اعتبر القوميون الأكراد أخيراً أن الوضع الراهن يشكّل لحظة تاريخية بالنسبة إلى الأكراد، فقد يقلب الأكراد الاصطفافات التي سادت في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى رأساً على عقب، ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك من دون تركيا. إنها لحظة تاريخية بالنسبة إلى أكراد تركيا والشرق الأوسط عموماً... شرط أن تتخذ أنقرة القرارات المناسبة محلياً!* باراغ خانا ، كبير زملاء كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، وهو مؤلف كتاب التكنوقراطية في أميركا: نشأة دولة المعلومات.«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»