الدستور المصري... نعم لـ «الأيديولوجيا»

نشر في 16-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 16-12-2012 | 00:01
 ياسر عبد العزيز يُصاب كثيرون بالدهشة عندما يطالعون الأنباء عن الاتهامات العديدة التي توجه إلى وزير الخارجية الإسرائيلي المستقيل أفيغدور ليبرمان على مر السنين، دون أن يخصم هذا من شعبيته شيئاً، أو يؤثر في فرص حزبه اليميني المتطرف في حصد مقاعد "الكنيست".

الدهشة كانت عنواناً دائماً لمتابعة أخبار جورج دبليو بوش أيضاً؛ إذ كان الرجل مضرب الأمثال عند الحديث عن "الخيبة" و"تدني الكفاءة" و"القرارات الكارثية".

لطالما كان "بوش الصغير"، كما كان يلقبه نقاده، موضوعاً للتندر في ما يتعلق بـ"خطل" السياسي، وتوريطه لبلاده في مآزق عديدة، ومع ذلك، فقد اُنتخب الرجل رئيساً للولايات المتحدة مرتين.

الأمر أيضاً يتكرر مع رئيس مثل نجاد؛ فرغم أن الإدارة السياسية لهذا الزعيم المندفع أضرت ببلاده كثيراً، إذا ما تمت مقارنتها بما فعله سلفه خاتمي، ورغم أن سياساته الداخلية فاقمت من الأزمة الاقتصادية في إيران الغنية بالنفط وعوائده المطردة الارتفاع، فإن حظوظه الشعبية تبدو في ازدياد، وقد أُعيد انتخابه أيضاً في عام 2009، ليفوز على زعماء إصلاحيين مستنيرين ذوي خبرات سياسية كبيرة وسمعة داخلية ودولية طيبة.

يعطي الرئيس البشير أنموذجاً آخر في هذا الصدد؛ فالرجل أحد الزعماء السياسيين ذوي الشعبية الحقيقية التي لا يبدو أنها تتأثر أبداً بالإخفاقات السياسية الداخلية والخارجية.

الواقع أن أي تحليل منصف للرأي العام في السودان، يشير بوضوح إلى تمتع البشير بمركز جيد على صعيد القبول الشعبي، رغم أنه الرئيس الذي انقسم السودان في عهده، وزادت حدة حروبه الأهلية، وتعرض لمزيد من العزل والتقييد.

فما السر وراء هذه النتائج المتضاربة؟ لماذا يخفق زعيم ما داخلياً وخارجياً، ويعرض شعبه لخسائر فادحة أو مخاطر حقيقية، ويجد، في الوقت نفسه، أنصاراً ومدافعين في كل الأوقات، بشكل يمكنه أحياناً من كسب الانتخابات، أو الاحتفاظ بالسلطة، أو المنافسة عليها؟

إنها الأيديولوجيا. الأيديولوجيا تضمن للزعيم المخفق والفاشل والعاجز التأييد والشعبية والأصوات. يحدث ذلك في الدول المتخلفة والتسلطية بالطبع، لكنه قد يقع في ديمقراطيات ناشئة أو عريقة، إذا تفاقمت المخاوف لدى الشعوب أو أحست بالاستهداف والخطر.

في عام 1798، استولى الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت على الإسكندرية، حيث أراد هذا القائد الداهية تسهيل مهمته في احتلال بقية أراضي مصر؛ فكتب رسالة، وأمر جنوده بتوزيعها في أنحاء البلاد. الرسالة كانت تقول: "أيها المشايخ والأئمة قولوا لأمتكم إن الفرنسيين هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما، وخربوا فيها كرسي البابا".  بعد هذه الحادثة بسنوات، وقف نابليون أمام مجلس الدولة في بلاده، محاولاً أن يشرح وسائله الحربية والسياسية، التي مكنته من حصد مجد أوشك به على حكم القارة الأوروبية بأسرها؛ فقال: "لم أستطع إنهاء حرب الفاندي، تلك المنطقة الجنوبية الغارقة في العصبية الكاثوليكية، إلا بعد أن تظاهرت بأنني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود لأعدت من جديد بناء هيكل سليمان".

لطالما استخدمت السياسة الدين مطية ووسيلة لتحقيق أغراضها؛ فمرة لتوحيد بلد منقسم، ومرة لتقسيم بلد موحد، ومرة لإقامة إمبراطورية واسعة، ومرة لتفكيكها، ومرة لإشعال الفتنة، ومرة لإعادة التماسك واللحمة، ومرة لشن الحروب، ومرة لإحلال المودة والسلام.

يعطي التصور الديني للسياسة الفرصة لاستخلاص الذرائع المطلوبة في كل آن، ففيه ما يحض على قتال الأعداء وما يشجع على النزوع إلى السلام، وفيه ما يصون حقوق الآخر الديني ويحفظ ممتلكاته، وفيه ما يجعل هذا الآخر مستباحاً حقيقة ومجازاً، وفيه ما يقبل وجود المغاير وينظم العلاقة معه، وفيه ما يقوض هذا القبول وينسفه في الأساس.

تلك لعبة التأويل منذ قديم الأزل. يجيّر الزعماء المستبدون والمغامرون والمهووسون بالسلطة ولاء الجمهور لأيديولوجيا معينة لمصلحتهم، فضلاً عن أنهم يرعون تلك الأيديولوجيا، ويعملون على ازدهارها، ليس بالطبع ثقة بها أو إيماناً بها فقط، ولكن لأنها الطريقة المضمونة لحصد الشعبية وتكريس السيطرة في المجتمعات الموبوءة.

إذا كنت من المتابعين لما يجري في مصر راهناً، فلعلك تتساءل عن نتيجة الاستفتاء على مشروع الدستور المطروح على المصريين الآن. الإجابة ستكون سهلة؛ فالدستور سيُقر على الأرجح.

سيقر المصريون الدستور المثير للجدل، والمليء بالعيوب، والمنطوي على المشكلات، والحافل بالقصور والذي أُعد بطريقة ملتوية وهزلية، وانسحبت كل القوى الوطنية من عملية إعداده باستثناء الإسلاميين.

سيقر المصريون الدستور الحافل بالعوار رغم أن من يقدمه لهم رئيس استطاع بشكل غريب تقسيم شعبه إلى قسمين، وعزز فرص الاحتراب الأهلي، وعمق التنافر الوطني، واتخذ سلسلة من القرارات المتخبطة التي عاد عن معظمها في سلوك غريب لم تعرفه دول ميكروسكوبية لم يمر على إنشائها عقود قليلة.

لقد أصدر مرسي قراراً بإعادة مجلس الشعب الذي تم حله بحكم قضائي، ثم عاد عن القرار اتقاء لتظاهرات عارمة، وحاول إبعاد النائب العام، ثم نكص عن تنفيذ القرار، بعدما انتفض رجال القضاء، وأصدر إعلاناً دستورياً هزلياً بامتياز، ثم ألغاه وأصدر غيره، مخففاً لآثاره، بعدما حاول المتظاهرون اقتحام قصره. وذهب ليناصر "حماس" في غزة، أثناء "العدوان" الإسرائيلي الأخير، فعاد باتفاق يتعهد فيه بـ"لجمها". وأصدر مرسوماً بفرض ضرائب، وألغاه في يوم إصداره نفسه.

وقد أدت سياساته إلى "احتراب أهلي" في الشوارع، في أقل من ستة شهور تولى فيها السلطة، وهي الفترة نفسها التي وصل فيها سعر العملة المحلية إلى أدنى مستوى له في ثماني سنوات، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تهدد بكوارث كبيرة، ورغم ذلك فإن المصريين سيصوتون بـ"نعم" لدستوره ودستور جماعته.

يبدو أن المصريين يتجهون إلى التصويت بـ"نعم" من منطلق أيديولوجي، ويبدو أن الرئيس وجماعته يدركون هذا العامل الحاسم والمحفز، لذلك فإنهم يلعبون عليه بانتهازية كبيرة.

نشطت كوادر جماعة "الإخوان" المسلمين وحلفائهم السلفيين في أعماق البلد على مدى الأيام الفائتة، لحشد الجمهور الفقير والأمي والمهمش في الأطراف البعيدة على التصويت بـ"نعم" من خلال وسائل يقول نقادهم إنها تمثل "رشى انتخابية". وفي الوقت نفسه كانت منابر المساجد، الخاضعة لوزارة الأوقاف كلها تدعو إلى التصويت بـ"نعم" لدخول الجنة، وتحذر من أن "لا" تقود صاحبها إلى النار. أما القنوات الدينية المساندة، فقد كانت تقول لمتابعيها من البسطاء.

إن من يقول "لا" للدستور، يريد أن "يتزوج الرجل المصري رجلاً مثله، وأن تتزوج المرأة امرأة مثلها"، وأن من يرفض الدستور يريد مصر بلداً لـ"الإلحاد والدعارة والشذوذ".

في بلاد يستفحل فيها الجهل والجوع والمرض، أو يتفاقم فيها التعصب والهوس الديني والقومي، أو تتزايد في عيون شعوبها المخاطر والمخاوف، فإن الجمهور ينقاد لمن يغذي هواجسه، ويعكس أيديولوجيته، ويخاطب مشاعره البدائية المذعورة، مهما كان فاشلاً أو عاجزاً أو مستبداً أو متراجع أخلاقياً.

* كاتب مصري

back to top