انقطعتُ خلال إجازة هذا الصيف إلى قراءة كتاب: (عليّ إمام المتقين) لعبدالرحمن الشرقاوي، والذي يقع في جزأين ثريين حفلا بعرض متأنٍ لمرحلة فاصلة من التاريخ، مستنداً بشكل أساسي على الاقتباسات المباشرة من أمهات المراجع التاريخية والفقهية المعتمدة. ولعل مسألة حيادية المؤلف وموضوعيته (وهو مصري سني معاصر) تُعدّ مطلباً أساسياً في القراءة الهادئة العاقلة لمجريات تاريخ مفعم بالزخم والتعقيد، ومتخم بالأهواء الحزبية والمذهبية، وضاجّ بالصراع بين إمامة راشدة ومُلْك عضوض.

Ad

ولعل ثيمة هذه المرحلة الفاصلة في التاريخ الإسلامي تتمثل في عملية (صناعة الفتنة)، وحبك خيوطها، والاستعانة عليها بالدهاء والمؤامرة، لتتحول من مجرد مناوشات ولغو إلى (فتنة كبرى) كما سماها طه حسين. فتُسفك الدماء وتُحل المحرمات وتتصدع الأمة إلى شيع ومذاهب وثارات لا تنطفئ نيرانها على مدى الأجيال والحقب!

ويبدو أن صناعة الفتنة ظلت إرثاً أصيلاً في ثقافتنا، تُمارَس على مستويات عدة، ابتداءً من دائرة الأوساط الاجتماعية والعائلية، مروراً ببيئات العمل، وانتهاء بما هو أخطر أي ما يمسّ مصالح الأمة وعلاقاتها الدولية. ودائماً هناك في كل فتنة (قميص عثمان)، يلوح متهافتاً كالحاً يخفي وراءه ما يخفي من وصولية وتسلّق وعطب نفسي وفراغ روحي ومهارة ماكرة في الاصطياد بالماء العكر. أما ثمرة الفتنة فلها من يجنيها من المستفيدين الذين اختصروا العالم بمصلحة ضيقة وفوز آن، يقطفونه من إشاعة التوتر والفوضى ونشر الأجواء الملوثة بالغضب والاحن.

في عصرنا هذا تقف وسائل الإعلام كأكبر مروّج للفتن! هذا إن لم تصطنع بوسائلها الخاصة قنابل الفتن وألغامها، وتعكف على النفخ في الرماد لتزيد من اشتعال النيران وتوهجها! تستوي بذلك الصحف الصفراء والفضائيات الإخبارية الأشد اصفراراً، فضلا عن مساهمات العابثين بالتويتر والواتس آب وما سواهما من أدوات التخاطب والاتصال. ورُبّ حدثٍ هزيل أو خبر تافه أو شخص نكرة حولته وسائل الإعلام والتخاطب إلى أمر جلل، تضطرب به الأحوال وتصطخب حوله الأمور وتشيع الأقاويل، ثم يتمخض الجبل عن فأر أو ما دون ذلك!

راودتني كل هذه الخواطر وأنا أشاهد عبر وسائل الإعلام تداعيات ما سُمّي إعلامياً الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجدتني أتساءل: كيف يمكن لمشاهد مبتسرة من فيلم هزيل، صنعه شخص مجهول أو نكرة، ثم التقطته نفوس متحفزة من محيط الإنترنت الطافح بما هبّ ودب، ثم عبثت به الأيادي الخبيثة بالدبلجة والقص واللصق، كيف لمثل هذا السيناريو الركيك الخبيث أن يسيء إلى مُعلّم البشرية الأعظم الذي رسم عبر تعاليمه التربوية والروحية معالم الطريق لأمم الأرض، فسار على نهجه الملايين مهتدين بعقيدته ودعوته الأصيلة للسلام وخير الإنسانية؟!

حين أشاهد صور المتظاهرين والمحتجين وأدقق في تعابير وجوههم ولغة أجسادهم، وأقارن بين الحدث شبه المفبرك وما يقابله من علامات الغضب والهياج المتمثلين بالتخريب والحرق والانقضاض على السفارات، بل وبالقتل، تنتابني الشفقة على هؤلاء، ويتراءى لي أن هناك أسباباً أخرى للهياج والعنف. ما هي يا ترى تلك الأسباب؟ هل هي قلة الثقة بالنفس؟ أم قلة نضج ووعي؟ أم تراها تراكمات قديمة لم تجد لها متنفساً، وحسابات سابقة لم تُستوفَ؟ أم برمجة عصبية لإعداد هؤلاء وقوداً للصراعات والحروب؟ أم هو حب للاستعراض واصطناع الميلودراما؟ ذلك أن للاحتجاج والرفض قنوات قانونية وأساليب عاقلة وراقية يمكن من خلالها التعبير عن قضايانا العويصة، ولكن بأقل الخسائر والفواجع.

أعتقد أن الطريق لايزال طويلاً وشائكاً أمام الكثير من الإشكاليات التي تواجهها الشعوب والأمم، ويأتي على رأسها إشكالية التعايش الديني والعرقي. ويبدو أن الإنسانية التي وصلت ركضاً إلى أقصى درجات التقدم العلمي والتقني، لا تزال عرجاء أمام قضية بكل هذه البداهة والسهولة!