السماء تمطر شعرا. السماء التي أمطرت أهم عواصم العالم بالقنابل والموت وارتفعت اليها ملايين الأرواح المجرمة والبريئة تستقبل آلاف القصائد التي تنشد السلام والحب، السماء التي لم تعد زرقاء في كثير من العواصم تتذكر أيام الدخان السام والخانق برقائق بيضاء كتب عليها الشعراء لتمطر المدينة بدلا من القنابل. السماء التي بدأت تستعيد زرقتها في أنحاء من العالم تكاد تفقدها مرة أخرى في أنحاء أخرى ومنها هذا الشرق المعذب. فكرة أن يخرج الناس الى الشوارع لاستقبال القصائد التي تلقيها طائرة ويصفقون ويلوحون لها في حالة السلام هي المقابل لفكرة أن يهرب الناس الى الملاجئ خوفا من الموت الذي تلقيه نفس الطائرة في حالة الحرب. أن يكون الشعر دلالة للحياة وأن تكون القصيدة نقيض القنبلة هو أسمى ما يمكن أن يحققه الشعر من أهداف.

Ad

بالتأكيد ليس كل الشعراء أبرياء وبلا خطايا وأياديهم بيضاء من غير دم وليس كل القصائد تجنح الى الحب ولكن الشعر ككائن أدبي هو في الأغلب يقف الى جانب الانسان. والمشروع الجميل الذي تبنته مجموعة الفنون التشيلية (كاساجراند) يعيد للشعر بهاءه ليملأ سماء الساحات التي اشعلتها الحروب قصائد شعراء بيضاء كقلوب شعرائها.

الحدث بدأ منذ أن تم سجن الدكتاتور التشيلي أوغستو بيونشه فقامت مجموعة الفنون التشيلية بإلقاء قصائدها فرحا برحيل رجل من أقسى طغاة أميركا اللاتينية والعالم وأول مدينة تلقت أمطار القصائد هي سانتياغو عاصمة تشيلي. ثم تكررت المحاولة في مدن مختلفة مثل وارسو برلين وأخيرا لندن. مدن القاسم المشترك بينها هو تعرضها لأبشع أنواع القصف. قصف بريطانيا بالقصائد هو أحد أكبر تجمع شعري في التاريخ. كان وزن القصائد الذي تم القاؤها يقترب من نصف طن لثلاثمئة من الشعراء المعاصرين يمثلون مئتي دولة وربما أهمهم شيموس هيني الشاعر الايرلندي الفائز بجائزة نوبل عام 1995 والشاعرة الأميركية كي رايان وغيرهم.

" نريد أن نصنع صورة مختلفة للسماء فوق هذه المدن التي دمرتها القنابل يوما ما" يعلق أحد المجموعة التشيلية التي شاركت لوحدها بخمسين شاعرا اضافيا وخمسين شاعرا من المملكة المتحدة والتي يتزامن اطلاق القصائد فوقها مع استعدادها لاستضافة الألعاب الأولمبية لهذا العام. والناس التي لا تقرأ الشعر هذه الأيام ولا تقتني الدواوين يتسابقون على الحصول على القصائد التي تمطرها السماء. يقول أحد المنظمين: "لم يتركوا على الأرض قصيدة واحدة".

نحن في عالمنا العربي والذي يشكل الشعر أهم عناصر ثقافته أو كان يشكل اهم عناصر ثقافته، بحاجة الى القصف الشعري السنوي لمدننا التي عانت في العصر الحديث وبعد الحرب العالمية الثانية شتى أنواع القصف. وربما لم تتعرض مدينة للقصف المتكرر كما تعرضت له بيروت سواء من أحبتها أو من اعدائها. وجميل لو أننا كررنا تجربة القصف الشعري للمدينة بدلا من مهرجانات شعرية لمجموعة من لصوص الشعر ومنافقي الصحف.