مخادع، محتال، كاذب، خاطئ، مضلل... هذه بعض الصفات التي تُطلق على الأشخاص المنافقين في علاقاتهم الاجتماعية والإنسانية. لكن النفاق أو المكر ليس سيئاً في المطلق، بل بإمكانه أيضاً أن يكون نوعاً من السلوك الدبلوماسي تجاه الآخرين، وهذه وجهة نظر من الممكن أخذها في الاعتبار.

Ad

يعرف الجميع أن اللطف أو التهذيب يشملان جانباً من الكذب، وشيئاً من النفاق أو المكر، تحية الصباح أو تحية المساء المرفقة بابتسامة مصطنعة، النقاشات بيننا وبين المقربين منا والتي نتحاشى فيها أن نصطدم معهم. اللياقة الاجتماعية تندرج أيضاً في هذا الإطار، لكن تحت شعار الدبلوماسية.

لا يصبّ هذا النوع من السلوك في صلب العلاقات الفعلية أو الحقيقية، بل يُستخدم في الإطار الاجتماعي الذي يتعدى المنزل، باستثناء بعض الحالات الشاذة عن هذه القاعدة بين شريكين، كشكل من أشكال استمرار الحياة بينهما. بالنسبة إلى جاك بوسيه، مؤلف «الحب الدائم»، لا بد من أن تحمل كل علاقة محترمة هذا الجانب من السلوك الدبلوماسي، أو أن تحمل نوعا من الكذب في مرحلة ما: يلجأ أشخاص كثر إلى تجنب المواجهة في أمر معين، حفاظاً على مشاعر الآخرين، أو حتى حفاظاً على مشاعرهم الخاصة. لكن عندما يصبح هذا التصرف سلوكاً دائماً، في علاقة عميقة ومستمرة، نكون في هذه الحالة قد دخلنا نفق الكذب.

غياب الصراحة

تقول ميرنا (موظفة، 35 عاماً): «النفاق الاجتماعي يحتّم علينا أولاً أن نردّ على سؤال «كيف الحال؟» بأننا بخير. فلا يجدر بنا أن نخبر من يسأل أننا استيقظنا متضايقين، أو متوعكين، أو أننا اختلفنا مع شريكنا عمّن سيغسل الملابس المتّسخة، بل أيضاً علينا أن نرسم ابتسامة صفراء على ثغرنا. كذلك يحتّم علينا النفاق الاجتماعي أن نسأل «كيف الحال» بعد إلقاء تحية الصباح، بشكل تلقائي، ومن دون أن نكترث فعلياً لحال الشخص الذي نوجّه إليه الحديث. كذلك يجب أن نجيب بـ{شكراً جزيلاً». إنه النفاق الاجتماعي الذي يحتّم علينا دوماً أن نطرح أسئلة كهذه، والأمر لا يتوقف»...

عندما نلتقي بزميل قديم في الدراسة لم نره منذ عشر سنوات مثلاً، نقول له فوراً: «أنت لم تتغيّر البتة»، بدلاً من أن نخبره بالحقيقة، فهو ربما اكتسب بعض الوزن، وحتماً يبدو على ملامحه التقدم في السن. تضيف ميرنا: «لو أن النفاق الاجتماعي لم يكن موجوداً لكان علينا أن نصارح شخصاً دعانا إلى تناول الطعام بأن الأطباق ينقصها الطعم مثلاً، وبأن اللحمة مطهوة أكثر مما يجب، وبأننا كنا نفضل تناول العصير على ارتشاف القهوة. من دون النفاق الاجتماعي، لتجرأنا على القول لصديقتنا المقربة إن السر الذي باحت لنا به الأسبوع الماضي أفشيناه بدورنا لصديقة أخرى، ستخبره أيضاً إلى صديقة رابعة في الأسبوع التالي». وتعتبر ميرنا أن «الحياة ستصبح أكثر بساطة لولا وجود النفاق الاجتماعي. لكانت أرواحنا أكثر هدوءاً وتحرراً، ولما اضطررنا إلى التفكير كثيراً في كذبتنا المقبلة. لكن، على هذا الشكل، سنصبح وحيدين. كيف ولماذا؟ لأنه من دون النفاق الاجتماعي، لا نعود قادرين على احتمال أي فرد. الأمر الذي يدفعني إلى التساؤل، هل الإنسان كائن اجتماعي فعلاً؟».

تهذيب

اللطف والتهذيب صفتان أساسيتان في الحياة الاجتماعية، إذ تساهمان في تنظيمها. تحدد الدماثة لكل شخص كيفية التصرف واتباع سلوك معين للتمكن من العيش وسط الجماعة. التهذيب إذاً ليس خياراً، بل شرط اجتماعي، فنحن نتعلم الكياسة منذ الصغر لأن الشخص «القليل التهذيب» غير مقبول اجتماعياً.

ولكن إن فكرنا قليلاً في مضمونه، فالتهذيب ليس سوى طريقة لإيهام الآخر بأن كل شيء على ما يرام، وللحفاظ على المظاهر الاجتماعية. أليس من النفاق أن نبادر إلى إلقاء تحية الصباح على شخص لا نحبه ونعرف أنه لا يحبنا في المقابل؟ لا نفكر غالباً في كلامنا الروتيني مثل صباح الخير، مساء الخير، وكيف الحال؟ وغيرها من جمل يومية نقولها بداعي العادة أو المصلحة. لكن إن كان التهذيب أحد أنواع النفاق أو الرياء الاجتماعي، السؤال الذي يطرح نفسه: هل بإمكاننا الانخراط أو الاندماج في مجتمع يحاسب على التهذيب؟ ألا يمكننا أن نفكر بلطف اجتماعي معتدل؟

لا يتكلّم أحد عنا في الطريقة نفسها عند حضورنا وفي غيابنا، إذ يستند  الاجتماع بين الأشخاص إلى مغالطة، فإن عرف كل شخص ما يقوله عنه صديقه حين لا يكون غائباً، مهما كان عمق العلاقة بينهما، لاختلفت وجهة نظره تجاهه. والإنسان الذي يعجز عن قول الحقيقة حتى لنفسه في بعض الأحيان ويرتدي أقنعة مختلفة، قد لا يتمكن من البوح بحقيقة ما يعتقد أو يفكر إزاء الآخرين أمامهم، فهو دوماً بحاجة إلى حمايتهم، وحتى إلى حماية ذاته.

عرف اجتماعي

تدين أخلاقياتنا النفاق، لكن الممارسة الاجتماعية تفرضه علينا. من المضحك أن الإنسان قد يقول لنفسه، ستتوقف عن الكذب، ثم يعود ليجد نفسه مضطراً إلى فعل ذلك كي لا يثير غضب جدّه، أو للحفاظ على علاقة جيدة مع أساتذته أو مع ربّ العمل. إذاً، ألا نستطيع القول إن النفاق الاجتماعي بات إحدى فضائل الإنسان المتحضّر؟ ومن سيدعم أولئك الذين يقولون حقيقة ما يشعرون أو يفكرون من دون حسابات، وبلا أخذ تأثير أقوالهم على المحيطين بهم في الحسبان؟ ربما تجدر بنا العودة إلى قراءة كلام مكيافيلي: «يجب على الأمير أن يقرر أن يقول الحقيقة أو الكذبة وفقاً للظروف، وفقاً للعبة الحظ، ووفق الضرورات السياسية». هذا لأنّ عليه واجبات مختلفة عن واجبات الأشخاص العاديين؟

لكن، يبقى أن الحقيقة ليست في ما نرغب في قوله، أو ننظر إليه نحن فحسب على أنه صحيح وفقاً لحسابات معينة. بعيداً عن المثالية، لا يمكننا أن نقول إن الإنسان بإمكانه الالتزام بالحقيقة في جميع الظروف، فهو قد يكون ضعيفاً أحياناً، أو حتى غير مدرك لما يقول، بالتالي الصدق يبدأ مع النفس أولاً: مواجهتها والتمكن من البوع بالإحلام والأهداف والخيبات والمخاوف والهواجس والمشاعر الخاصة التي تعتمل داخل الإنسان. من هنا، تبدأ المغالطات شيئاً فشيئاً بالزوال، لذلك فلنتمهّل حين نتحدّث عن صفات الكمال في قول الحقيقة. هذا أمر صعب جداً، وإن كان قابلاً للتطبيق إلى حد معين في الحياة الخاصة، فإنه يكاد يستحيل أن يتحقق في الحياة العامة.