في عام 1987م، أطلقت سنغافورة واحدة من أطول وأعقد وأكفأ شبكات قطارات الأنفاق (المترو) في العالم آنذاك، في مشروع كلف في انطلاقته الأولى قرابة الأربعة مليارات دولار، ولا زالت التوسعات مستمرة فيه بشكل حثيث حتى الساعة. وفي عام 2009م، وبالتحديد في التاسع من الشهر التاسع من ذلك العام، انطلقت المرحلة الأولى من مترو دبي، والذي بلغت تكلفته الإجمالية قرابة الثمانية مليارات دولار، ولا يزال هذا المشروع المدهش مستمراً في التوسع. ومن أبرز معالم ولاية شيكاغو الأميركية شبكة الطرق والشوارع ثنائية وثلاثية الطبقات، التي تربط نواحي الولاية ببعضها بعضاً، ولا تزال تتطور يوماً بعد يوم.

Ad

هذه المشروعات العالمية التي كلفت مليارات الدولارات، في القديم والحديث، والعشرات غيرها، مما تم إنشاؤه وإقامته منذ عشرات السنوات، ولا يزال يشيد يوماً بعد يوم، قامت بها هذه الدول في مشارق الأرض ومغاربها بهدف رئيسي مباشر، هو التخفيف من الزحمة المرورية. وذلك لأن هذه المشكلة، ولن أكشف هنا أي أسرار، لا تتوقف عند اكتظاظ الشوارع بالسيارات وتأخر الناس عن الوصول إلى أعمالهم ومواعيدهم في الوقت المحدد، بل الأمر أكبر من ذلك وأعقد بكثير. فناهيك عن التكلفة المالية للخسائر المرتبطة بتأخر وصول الموظفين إلى أعمالهم وتأخر وصول البضائع والشحنات وما شابه إلى وجهاتها، فإن هناك أيضا تكاليف اقتصادية ومالية ترتبط بإنقاص العمر الافتراضي للمركبات بسبب كثرة تعرضها للتسارع والضغط على المكابح في الازدحامات المرورية، وكذلك بإطالة الفترات المستغرقة في حرق الوقود لتلك العربات القابعة في الشوارع والطرقات لوقت أطول في الزحام، مما يزيد من نسبة تلوث الهواء بسبب الانبعاثات الكربونية، وكذلك تعطيل حركة سيارات الإغاثة (الإسعاف والمطافئ وما شابه) في حالات الطوارئ. بل إن بعض الدراسات العلمية وصلت إلى تسليط الضوء على التأثيرات الواضحة المنعكسة على الأداء الوظيفي وكفاءة العمل للموظفين الذين يتعرضون للضغط النفسي الناتج عن مرورهم بهذه الاختناقات المرورية صباحاً ومساءً!

هذه التأثيرات السلبية، وغيرها مما لم أتحدث عنه ويمكن التعرف عليه ببحث بسيط عبر الإنترنت، هي التي دفعت تلك الدول، التي تحترم نفسها وشعوبها وتعرف قيمة الوقت والمال والجهد والبيئة والصحة، إلى أن تستثمر وتنفق تلك الأموال الطائلة لمعالجة الازدحامات والاختناقات المرورية. وفي مقابل هذا كله يخرج علينا وكيل وزارة الداخلية المساعد مدير عام الإدارة العامة للمرور اللواء الدكتور مصطفى الزعابي، في تصريح له منذ أيام ليقول بأن الزحمة المرورية "نعمة" لأنها تقلل من الحوادث الجسيمة!

وللإنصاف، فلا أدري عن ملابسات هذا التصريح الغريب الذي أوردته إحدى الصحف الكويتية، فلعله قاله مازحاً أو ساخراً أو متندراً أو ربما مجتهداً، خصوصاً أنه قد شدد لاحقاً على ضرورة معالجة المشكلة، وذلك لأن كل من هو قريب من هذا الشأن يجب أن يدرك وبوضوح كل المشاكل التي ذكرتها أعلاه والمرتبطة بمشكلة الزحمة المرورية، ولا يحتاج إلى أن يكون دكتوراً وكيلاً مساعداً ومديراً عاماً لإدارة المرور!

لكن، ومع ذلك، وهنا سأرد على من حاولوا التخفيف من أثر التصريح، فمن الواجب التوضيح بأن من يكون في موقع المسؤولية، محاسب على كل ما يقوله ويفعله، وأنه كلما علا منصبه وكبر معه طبعاً حجم مسؤوليته، صار من الصعب أن تتسع أقواله وأفعاله للتأويل، ولا أن يصح أن تُحمل على غير محمل الجد والمعنى الرسمي الدقيق. ولهذا السبب فإن الحكومات والجهات الرسمية والشركات المعتبرة، تحرص كل الحرص على أن يكون لها ما يسمى بالناطق الرسمي، الذي يكون هو المخول الوحيد للحديث والتصريح، لأنه يكون حينها قد تدرب وتعلم على ذلك ويفهم تماماً تبعات ما يقوله.

الزحمة نقمة كبيرة على الاقتصاد والصحة والبيئة، يا حضرة اللواء الدكتور المدير العام لإدارة المرور، وهي من ضمن عشرات النقم الأخرى التي ابتليت بها بلادنا على كل صعيد، وتحتاج إلى العلاج الناجع السريع، لا التصريحات السطحية غير المحسوبة.