فجر يوم جديد: هزيمة عزيزة على القلب!
الفرحة لحظة في حياتنا بينما أعوامنا كلها بكاء على الأطلال، وإذا حدث واستغرقنا في الضحك نتوقف، فجأة، مستدركين نادمين: «اللهم اجعله خير»! ظاهرة تحتاج إلى تفسير من الأطباء النفسانيين، لنعرف في أضعف الإيمان، لماذا تحظى الأفلام الهندية «المأساوية» بكثير من التجاوب الجماهيري، في حين تفشل الأفلام الأميركية «الكوميدية» في تحقيق إيرادات مماثلة لتلك التي تحققها في الصالات العالمية، وننصرف عنها وكأنها «طاعون» علينا أن نحمي أنفسنا منه!
بالمنطق نفسه تراجع اهتمام مخرجينا وكتابنا ومنتجينا بالانتصارات التي تحققت على أرض الواقع ولكنها لم تجد لها مكاناً على الشاشة، في الوقت الذي أولوا عناية فائقة بهزائمنا، وأبدعوا في رصد أسبابها وتحليل نتائجها، ابتداء من هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1948 وانتهاء بهزيمة يونيو/ حزيران من عام 1967، التي تحل الذكرى الخامسة والأربعون لها هذه الأيام، فالسينما المصرية بدت أكثر عمقاً ووعياً ورصانة، وهي تتوقف عند الهزيمة التي اصطلح على تسميتها «النكسة» مقارنة بالأفلام التي تناولت حرب أكتوبر/ تشرين أول من عام 1973، واتسمت عند تقديمها على الشاشة بكثير من السذاجة والسطحية، ولم تخل من تفاهة وركاكة! كعادة السينما العالمية التي لا تقترب من الحدث إلا بعد مرور سنوات تتيح قدراً مناسباً من التوثيق والتدقيق، والتوصل إلى نتائج موضوعية، قدم المخرج حسين كمال فيلم «ثرثرة فوق النيل» بعد أربع سنوات من الهزيمة عن قصة للأديب الكبير نجيب محفوظ كتب لها السيناريو والحوار ممدوح الليثي، ونجح الفيلم في تجسيد الانعكاسات السلبية للهزيمة على شرائح عدة في المجتمع المصري أصيبت بخيبة أمل شديدة وصدمة قوية، ولم تجد سوى المخدرات واللامبالاة حلاً للهروب من الواقع المُحبط، وجاءت عبارة «الفلاحة ماتت» بمثابة إسقاط على مصر التي زلزلتها الهزيمة. المثير أن عام 1969 شهد أيضاً عرض فيلم بعنوان «الناس اللي جوه» إخراج جلال الشرقاوي مأخوذ عن قصة للأديب الفرنسي ألبير قصيري كتب لها السيناريو يوسف فرنسيس وصاغ الحوار الأديب الكبير نعمان عاشور، لكن أحداً لم يتوقف عنده ضمن أفلام الهزيمة، على رغم جرأته والإسقاط الواضح في حديثه عن منزل فى حي شعبي في القاهرة مُعرض للانهيار، بعد تسرب الشروخ إلى جدرانه بما يهدد بانهياره على قاطنيه، وهو ما يحدث تدريجاً فيبدأ السكان في إعادة ما تهدم، وانتشال جثث الموتى من تحت الأنقاض! مع مجيء عام 1972 قدمت السينما المصرية ثلاثة أفلام أخرى رصدت هزيمة 1967 برؤى فكرية وفنية على قدر عال من النضج والحرفية، يأتي على رأسها فيلم «العصفور» المأخوذ عن قصة كتبها لطفي الخولي، الذي شارك في كتابة السيناريو والحوار مع المخرج يوسف شاهين، ونجح في الكشف عن مقدمات الهزيمة التي أجبرت عبد الناصر على التنحي قبل أن يتراجع بسبب الضغط الشعبي الجارف. بالحرفية الفنية نفسها قدم المخرج سعيد مرزوق فيلم «الخوف»، الذي أشار إلى مشاعر اليأس التي تمكنت من النفوس، نتيجة العدوان الغاشم على مدن القناة. في المقابل، بث فيلم «أغنية على الممر» للمخرج علي عبد الخالق جرعة كبيرة من التفاؤل بتأكيده أننا قادرون على تجاوز الهزيمة، من خلال خمسة جنود حاصرهم العدو في ممر على جبهة القتال، بعد استشهاد زملائهم في حرب يونيو، وإصابة جهاز اللاسلكي بعطب عزلهم عن العالم ولكنهم تشبثوا بمقاومة العدو حتى الرمق الأخير. «أبناء الصمت» أحد الأفلام التي اتسمت بالصدق في الاقتراب من «النكسة»، فضلاً عن اختيار زاوية جديدة وغير مألوفة، اعتمد فيها المخرج محمد راضي على قصة وسيناريو وحوار للكاتب مجيد طوبيا، الذي عاش الحرب، وعايش الهزيمة، نوهت إلى الدور المجيد لحرب الاستنزاف ونجاحها في تكبيد العدو الإسرائيلي خسائر فادحة، ومهدت لانتصار أكتوبر/ تشرين أول 1973. الخلاصة أن السينما المصرية نجحت في تجسيد «الهزيمة» على الشاشة بأفضل مما فعلت عند تقديم «النصر»، كذلك تبنت رؤية أكثر عمقاً ووعياً على الأصعدة الاجتماعية والسياسية، بتأكيدها أن تجاوز آثار الهزيمة هو السبيل الوحيد إلى النصر، الذي عجزت في ما بعد عن تجسيده على الشاشة، إما لأن أحداً من المنتجين والكتاب والمخرجين لم يتحمس له أو لأن الدولة قصرت كثيراً عندما بخلت بإمكاناتها عليه... وإما لأننا أمة وقعت في غرام «النكسة» وأدمنت الهزيمة!