الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (15)

Ad

كانت الأندلس تعزف لحنها الحزين الأخير في ظل دولة بني الأحمر في غرناطة، بعد أن فقدت معظم قواعدها الكبرى وعلى رأسها قرطبة وإشبيلية وبلنسية في نحو ثلاثين سنة فقط (بين عامي 627 و655هـ)، وانحصرت رقعة الأندلس المسلمة سريعا في الركن الجنوبي من البلاد، بعد أن كانت الأندلس تشغل في منتصف القرن السادس الهجري نحو نصف مساحة شبه جزيرة إيبيرية، وانكمشت لتضم نحو عشر البلاد، وبدا أن على مملكة غرناطة أن تواجه وحدها الهجمات الإسبانية والبرتغالية التي تكالبت عليها.

رغم إدراك الجميع أن النهاية قادمة لا محالة، وأن المقاومة والصمود نوع من العبث، فلم يعد هناك للمسلمين في الأندلس إلا غرناطة التي أصبحت كجزيرة في محيط نصراني إسباني يحمل الكراهية للوجود الإسلامي والتفوق الحضاري الأندلسي، فكانت الممملكة الصغيرة تسير نحو نهايتها المحتومة لكن في كبرياء وشموخ، فقد نجحت في أن تدافع عن بيضة الإسلام طوال قرنين ونصف القرن، وأن تواجه ببسالة رغم ضعف الإمكانيات دول الإسبان وعلى رأسها قشتالة القوية، وأن تنازل الأخيرة في ساحة الوغى وتحقق عليها بعض الانتصارات.

وواصلت غرناطة تفوقها الأدبي ورسالتها الحضارية، فاستمر عطاء الأندلسيين يتدفق، على أن هذا العطاء في معظمه تحدد في فن العمارة، لولع الأندلسيين ببناء القصور والمساجد الفخمة والقلاع الحصينة، وكانت قصور الحمراء جوهرة العمارة الغرناطية بلا شك، فهي واحدة من العمائر الخالدة في بلاد الأندلس طوال تاريخها، وسميت بقصور الحمراء نسبة إلى بني الأحمر حكام غرناطة، واكتمل بناء هذا الصرح المعماري في منتصف القرن الثامن الهجري، وتتميز القصور بروعة نقوشها الدقيقة التي جعلت منها أعجوبة عصرها، خصوصا أن النقوش الفنية في قاعات الحمراء امتزجت فيها تقاليد العمارة الإسلامية بالمؤثرات الإسبانية الوافدة.

أما أشهر شعراء هذه الفترة فكان صالح بن شريف الرندي المتوفى سنة 684هـ، ويعرف بـ"خاتمة أدباء الأندلس"، كذلك بلغت الحركة الفكرية في عصر مملكة غرناطة ذروتها في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وصعد نجم لسان الدين محمد بن عبد الله بن الخطيب السلماني (المتوفى سنة 776هـ/1374م) والذي يعد آخر شخصية فكرية مرموقة ظهرت في تاريخ الأندلس، فقد كان وزيرا وكاتبا لثلاثة من سلاطين غرناطة فضلا عن موهبته الشعرية والأدبية التي جعلته يؤلف العديد من الكتب المهمة في التاريخ والأدب منها "الإحاطة في أخبار غرناطة"، و"أعمال الأعلام فيمن بويع بعد الاحتلام"، و"ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب"، وكان على صداقة وطيدة بالمفكر الكبير ولي الدين بن خلدون الذي زار الأندلس وشارك في تسيير سياستها الخارجية فترة، قبل أن يغادر الأندلس.

ويسجل لنا لسان الدين بن الخطيب في كتبه ورسائله إلى ملوك عصره الأوضاع داخل مملكة غرناطة بلغة صادقة وألمعية نادرة، فقد أشار إلى مصير غرناطة والإسلام صراحة في إحدى رسائله إلى سلطان بني مرين المغربي قائلا: "فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تيارا، ونكابر بحرا زخارا، ونتوقع إلا أن وقى الله تعالى خطوبا كبارا، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصارا، ونلجأ إليه اضطرارا، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر، استعدادا به واستظهارا".

ويعد ابن الخطيب علامة فارقة في الفكر الأندلسي، وختام سجل ضخم من علماء ومفكرين وفلاسفة عظام، وقد جاءت نهايته بنكبة للفكر الأندلسي تمهيدا لنكبة سياسية، فقد اتهم بالزندقة والكفر، مما اضطره إلى مغادرة الأندلس بعد حرق كتبه، إلى فاس وهناك حبس ثم قتل وأحرقت جثته ودفن خارج المدينة، فكان موته نذيرا بأفول شمس الفكر والأدب ولم نعد نصادف أديبا أو شاعرا أو مفكرا كبيرا بعد وفاة ابن الخطيب حتى سقوط غرناطة، خصوصا أن الكثير من أبناء الأندلس النابهين استشعروا نذر النهاية فقرروا الخروج من البلاد إلى المغرب ومصر والشام، ففرغت غرناطة من كفاءاتها الفكرية.

وبعيدا عن حياة الفكر والأدب، فرضت السياسة نفسها على مجتمع غرناطة باعتبارهم أمة تحت السلاح، فقد كانوا في حروب مستمرة ضد الممالك الإسبانية خصوصا قشتالة سيدة شبه الجزيرة بامتياز، لذلك وضع محمد بن يوسف الأحمر أسس مملكته في جنوب شبه جزيرة إيبيرية، وعمل على تنظيم مملكته في سنوات حكمه الأخيرة، خصوصا أن مملكته الصغيرة اكتظت بسكانها ممن هاجر إليها من القواعد الأندلسية المتساقطة، فقسمها إلى ثلاث ولايات رئيسية في الشرق ولاية ألمرية، وفي الوسط ولاية غرناطة، وفي الغرب ولاية ملقة، ولم يوافه أجله في سنة 671هـ/1272م إلا بعد أن أرسى دعائم مملكة قوية، ومهد الطريق إلى خلفائه ليواصلوا حكم البلاد ومجالدة الإسبان.

وكانت غرناطة رابعة القوى الفعالة في شبه الجزيرة الإسبانية بعد ممالك قشتالة وأراجون والبرتغال، وتسبق مملكة نبرة، واستغلت غرناطة العداء والنزاع بين تلك الممالك في مد أجلها إلى حين، وكانت عنصرا فاعلا في سياسات تلك الممالك، وكانت دائما في صف مملكة أراجون ضد مملكة قشتالة القوية، إلا أن العامل الأكبر في بقاء غرناطة كان ولاشك الدعم القادم من المغرب تحديدا من دولة بني مرين سلاطين المغرب الأقصى، فقد أمدوا غرناطة بما تحتاج إليه من سلاح ورجال، وعبر السلطان أبو يوسف يعقوب على رأس قواته إلى الأندلس لنجدة غرناطة أربع مرات، واستطاعت الجيوش الغرناطية المغربية المتحدة أن تهزم قوات قشتالة في موقعة إستجة سنة 674هـ/1275، وهو الانتصار الذي أعاد إلى الأذهان ذكرى انتصارات المسلمين في موقعتي الزلاقة والأرك، واستقرت في مملكة غرناطة قوة من بني مرين تلقب قائدها بشيخ الغزاة، ونهضت هذه القوة بدور كبير في الحفاظ على بقاء غرناطة والدفاع عنها.

وتتابع الأمراء من بني نصر على حكم غرناطة، وهمهم الأول الكفاح ضد المطامع الإسبانية وصد الهجمات المتتالية كموج البحر، وبدا أن مملكة غرناطة هي حالة معكوسة من مملكة جيليقية التي تجمعت فيها بقايا القوط بعد الفتح الإسلامي للبلاد ونشأت من رحمها ممالك قشتالة وليون ونافافر ونبرة، لكن تغيرات أساسية جرت داخل غرناطة وخارجها كانت كفيلة بقلب طاولة الأمور لغير مصلحة غرناطة.

اتحاد التاجين

ففي مملكة قشتالة، توفي الملك إنريكي الرابع سنة 879هـ/1474م، دون وريث ذكر فخلفته أخته إيزابيلا على عرش قشتالة، وكانت متزوجة من فرناندو وريث عرش مملكة أراجون، وفي عام 1479م ارتقى فرناندو عرش أراجون رسميا، وأقدم كل من فرناندو وإيزابيلا على خطوة كارثية على مستقبل غرناطة، عندما أعلنا اتحاد المملكتين، لتفقد غرناطة بذلك حليفتها أراجون في وقت تضخمت قوة عدوتها قشتالة وتعاظمت هيمنتها على شبه الجزيرة الإيبيرية.

وبدأت أولى خطوات مملكة إسبانيا الموحدة في الظهور على المسرح السياسي، بعد أن استمرت الحروب بين المملكتين عدة قرون، وبدأت إسبانيا تخط خطواتها الأولى صوب عظمتها وعصرها الذهبي الذي لم تعرفه طوال تاريخها، وكان من سوء حظ المسلمين أن الملكين تميزا بتعصب شديد للكاثوليكية دون سواها فكان هذا نذير خطر على مستقبل المسلمين في شبه الجزيرة كلها، وكان على رأس أولوياتهما القضاء على آخر دول المسلمين في البلاد، فتوجهت أنظارهما صوب غرناطة وركزا قواتهما لعمل حاسم ضد المملكة الصغيرة، وكان انقسام المملكتين ودخولهما في صراعات عنيفة يمنح غرناطة فترات من السلام والراحة، لكن كان على غرناطة الآن أن تواجه أكبر قوة وجدت في تاريخ إيبيرية كله.

جاء ذلك في وقت انهارت قوة بني مرين سلاطين المغرب، ولم يكن خلفاؤهم من بني وطاس بالقوة التي تسمح لهم بأي عمل حربي لمصلحة غرناطة، نظرا لهزائمهم أمام البرتغاليين الذين هاجموا سواحل المغرب بلا هوادة، واستطاعت الحملات الإسبانية فصل غرناطة عن بلاد المغرب بسيطرتها على مدن طنجة وسبتة وجبل طارق، ولم يعد بإمكان المغاربة إذا استطاعوا، أن يمدوا يد العون إلى إخوانهم في غرناطة، فتركت المملكة الصغيرة إلى مصيرها المحتوم.

داخليا، كانت مملكة غرناطة تسير إلى نهايتها بخطى وئيدة لكنها مؤكدة، وكانت الأوضاع تنذر بالخطر، إذ بدأت رياح الانقسام والحرب الأهلية تهب بقوة ، بسبب الخلاف بين سلطان البلاد آنذاك أبو الحسن علي الغالب بالله (حكم بين عامي 867-890هـ/1462-1485م) وأخيه أبي عبد الله محمد الزغل (أي الباسل بلغة أهل غرناطة) وانقسمت المملكة بين الأخوين فاستقل الزغل بولاية مالقة، في حين ظلت غرناطة والولايات التابعة لها في يد السلطان الغالب بالله.

لم تنته الحرب الأهلية بانقسام مملكة غرناطة، بل إن الجولة الثانية من الحرب بدأت بعد أن حرم السلطان الغالب ولده أبا عبدالله محمد من وراثته لمصلحة ولد له من جارية إسبانية الأصل تدعى ثريا، وهو أمر رفضه الابن الأكبر الذي ثار على والده، لتشتعل الثورة من جديد داخل غرناطة ويفر السلطان بعد أن هزم وجرد من تاجه، إلى أخيه الزغل في مالقة الذي استقبل أخيه المطرود أحسن استقبال وتناسيا ما بينهما من حروب.

في غرناطة أصبح أبو عبدالله محمد سلطان غرناطة في سنة 887هـ/1482م، لكن العدو المتربص في قشتالة اشتم رائحة الخلاف بين أبناء الأحمر، فكشر عن أنيابه، وهاجم أطراف مملكة غرناطة، وهاجمت قوات قشتالة مالقة طمعا في إسقاطها إلا أن الزغل استطاع الدفاع عنها ببسالة ورد القوات المغيرة على أعقابها، بعد أن هزمها أكثر من مرة، في وقت خرج أبو عبدالله محمد على رأس قواته ورد الهجوم القشتالي وقرر أن يقوم بمهاجمة مملكة قشتالة يحركه الأمل في تحقيق نصر يعيد الكثير من هيبة غرناطة الضائعة، ورغم تحقيقه عدة انتصارات أولية، إلا أنه مني بالهزيمة وسقط أسيرا في يد أعدائه.

في غرناطة لم يعد ثمة سلطان يحكم البلاد، فاتفق أولي الرأي على ضرورة استدعاء السلطان الغالب من عند أخيه الزغل ليعود ليحكم البلاد من جديد، إلا أن السلطان الغالب كان قد تجاوز به العمر ففقد بصره وهد من عزمه المرض، فتنازل لأخيه أبي عبدالله محمد الزغل عن حكم البلاد.

رأى الملك فرناندو أن يستفيد من أسيره الملكي أبي عبدالله محمد بن الغالب، فرأى أن الإفراج عنه وإعادته إلى غرناطة سيزيد من نيران الحرب الأهلية اشتعالا، خصوصا إذا كان إطلاق سراح السلطان مقابل اتفاق، فقد اعترف أبو عبدالله محمد بطاعة الملك فرناندو وزوجه الملكة إيزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية، وأن يقدم ولده الأكبر رهينة ضمانا بتنفيذ وعوده في مقابل مساعدتهما في إعادته إلى عرشه، بذلك تحققت سياسة قشتالة الرامية لإضعاف غرناطة تمهيدا للضربة القاضية.

انحسار الأندلس

عاد أبو عبدالله محمد ليبشر بحرب أهلية جديدة ضد عمه الزغل، وهي حرب استغلتها قشتالة للعمل على ابتلاع المزيد من أراضي مملكة غرناطة فهاجمت مدينة رندة الحصينة 890هـ/1485م التي سقطت أمام الهجوم العنيف ففقدت بذلك غرناطة حصنها الحصين في غرب البلاد، ثم سقطت مدينة لوشة على الرغم من دفاع أبي عبدالله عنها، ثم سقطت حصون إليورة ومكلين وقلنبيرة، واستخدموا في مهاجمتها المدافع التي كانت سلاحا جديدا آنذاك، المهم أن هذه الهجمات نجحت في تطويق غرناطة وساعدت في التضييق عليها، في وقت كانت الحرب الأهلية تحصد أبناء غرناطة حصدا، ولم تنته الحرب إلا بتقسيم جديد لمملكة غرناطة كل منهما يضمر العداء للقسم الآخر ويتربص به الدوائر، مملكة غرناطة تحت الحماية القشتالية ويحكمها أبو عبدالله محمد، في حين سيطر عمه محمد الزغل على قلاع وادي آش، وهكذا انقسم المسلمون متجاهلين الخطر المحيق بهم في وقت كانت الممالك الإسبانية القوية أصلا تتحالف وتتحد.

وهي فرصة استغلها جيدا الملك فرناندو الذي قرر مهاجمة الجزء الخاضع لمحمد الزغل باعتباره أميرا خارجا عن نفوذه، فقرر مهاجمة ثغر "مالقة" آخر صلة بحرية بين مملكة غرناطة وبلاد المغرب، وكان سقوطها يعني سقوط مملكة غرناطة في بحر الممالك الإسبانية التي تحاصرها من جميع الجهات، وعجز الزغل وكان في وادي آش عن مد يد العون للمدينة خوفا من هجوم ابن أخيه صاحب غرناطة، لكنه حاول أن يستغيث بملوك الإسلام في القاهرة وإسلامبول بعد أن أصم ملوك المغرب والجزائر وتونس الآذان عما يجري في الأندلس، ولم تقم القاهرة بأكثر من مظاهرة دبلوماسية أرسلت خلالها رسائل تهديد إلى الفاتيكان وملوك الإسبان بالكف عن اضطهاد مسلمي الأندلس، وإلا وقع اضطهاد مماثل لمسيحيي الشرق في إمبراطورية المماليك فضلا عن تدمير المقدسات المسيحية في فلسطين الخاضعة لحكم القاهرة، وهي مظاهرة لم يعرها فرناندو وإيزابيلا أي اهتمام على الرغم من استقبالهما رسل السلطان المملوكي قايتباي.

على كل، سارت الأمور في الأندلس إلى نهايتها المحتومة، وسقطت مالقة في أواخر شعبان سنة 892هـ/ أغسطس 1487م، وتعرض أهلها للتنكيل من قبل فرناندو نظير استبسالهم في الدفاع عن المدينة، حتى قال مؤرخ معاصر مجهول: "وكان مصابهم مصابا عظيما تحزن له القلوب وتذهل له النفوس، وتبكي لمصابهم العيون".

كان محمد الزغل يراقب بعين جزعة في وادي آش تساقط مدن الأندلس الباقية تباعا دون أن ينجدها فارس، وأدرك بعد سقوط حصون المنكب وبسطة وآلمرية أن المقاومة نوع من العبث والحرب انتحار أمام عدو محيط بالأندلس من جميع الجهات ويفوقها قوة عشرات المرات، فسار إلى معسكر ملك النصارى ووقع معه معاهدة سرية دخل بها في طاعته وانضوى تحت لوائه، في المقابل دخل فرناندو حصون وادي آش على أن يمنح الزغل حكم مدينة أندرش كأحد الأمراء التابعين وأعطاه مرتبا شهريا، إلا أن الزغل لم يرض بحياة الذل بعد أن ارتضاها لوطنه، فغادر الأندلس لآخر مرة وأقام في بلاد المغرب يحيا بين عذابات النفس وحسرات الندم.

الهجوم النهائي

لم يتبق غير غرناطة في الساحة تنتظر رصاصة الرحمة التي لم تتأخر كثيرا، فالمدينة لم تعد مملكة إلا داخل أسوارها فقط، بعد أن سقطت قواعدها تباعا، وشلت الحرب الأهلية أية قدرة للعمل بإيجابية لإنقاذ حصونها التي سقطت تباعا، ورأى فرناندو وإيزابيلا قبل القيام بأي عمل حربي استخدام الوسائل الدبلوماسية فأرسلوا وفدا إلى غرناطة يحمل رسالة مفادها تسليم قصور الحمراء لملكي قشتالة، إلا أن أبا عبدالله محمد رفض هذا العرض وصمم على المقاومة حتى الرمق الأخير، بعد هذا الرد لم يعد مفرا من الهجوم المرتقب فخرج فرناندو على رأس جيوشه الجرارة التي قدرت بحوالي ثمانين ألفا، في عام 896هـ/1491م صوب هدفه النهائي غرناطة، وضرب فرناندو حصارا مشددا على غرناطة مانعا عنها الإمدادات وصلتها بالعالم الخارجي، وصمم على مواصلة الحصار بنفسه حتى سقوط المدينة، ومن أجل ذلك أنشأ حصنا في مواجهة غرناطة سمته إيزابيلا "سانت فيه" أو "شنتفي" أي الإيمان المقدس.

كان حصار غرناطة أشد شراسة مما يتوقعه أحد، كانت الجيوش الإسبانية ضخمة فاقت قدرة غرناطة بجيشها على المقاومة، وأجبر الحصار أهالي المدينة على أكل الكلاب والقطط والجيف، بعد أن قامت القوات الإسبانية بتحطيم وحرق الحقول المجاورة للمدينة، ما تسبب في مجاعة رهيبة بين سكان غرناطة.

وقاد عملية المقاومة الباسلة فارس يدعى موسى بن أبي الغسان، الذي خرج على رأس قوات غرناطة وحارب القوات المحاصرة وأحرز بعض الانتصارات، لكنها كانت تعبيرا عن الزفرة الأخيرة في جسد ميت، فارتد موسى بجنوده إلى غرناطة، هنا أيقن الجميع أن المقاومة وصلت إلى نهايتها بعد حصار دام ما يزيد على سبعة أشهر، وبدأت الأصوات تتعالى داخل غرناطة مطالبة بتسليم المدينة، ولم يعارض هذا الرأي إلا القائد الشجاع موسى بن أبي الغسان الذي سجل التاريخ كلماته عندما صرخ قائلا: "خير لي قبر تحت أنقاض غرناطة، في المكان الذي أموت مدافعا عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين"، وصرخ في جنوده يبث فيهم الحماس "لم يبق لنا سوى الأرض التي نقف عليها فإذا فقدناها فقدنا الاسم والوطن". لكن حماسة الكلمات أضاعها ضجيج المدافع التي دكت أسوار غرناطة، ولم تجعل مفرا من الاستسلام، وعرض فرناندو وإيزابيلا معاهدة تسليم من 56 بندا، تنص في معظمها على تعهدات باحترام الملكين حرية المسلمين في العبادة والاعتقاد، وتضمن لهم حرية التنقل والتملك.

لم يملك السلطان الغرناطي إلا أن يوقع على معاهدة التسليم بعد أن أيقن هو وجميع أهالي غرناطة عبث المقاومة، وبدا أن اجتياح القوات الإسبانية للمدينة وارتكاب مذبحة بشعة أمر متحقق، وكتب التاريخ أن أبو عبدالله محمد صاح قبل أن يوقع على المعاهدة قائلا: "الله أكبر لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله. تالله لقد كتب عليّ أن أكون شقيا، وأن يذهب الملك على يدي".

وفي يوم 2 من ربيع الأول سنة 897هـ/ 2 من يناير 1492 م دخل الملكان الكاثوليكيان غرناطة إعلانا بذهاب دولة الإسلام في الأندلس التي دامت ثمانية قرون، ونصب صليب فضي ضخم فوق برج الحراسة أعلى أبراج قصر الحمراء، ورفعت إلى جواره راية القديس يعقوب وراية قشتالة، وانطلق الرهبان في تلاوة صلاة الحمد.

وكان انهيار الحكم العربي في هذه المدينة ذا صدى كبير وواسع جدا لا في إسبانيا فقط بل في كل أوروبا، فأقيمت الصلوات في العديد من المناطق ابتهاجا بالحدث.

غادر أبو عبدالله وأمه الحرة عائشة غرناطة بعد أن أصبحا فيها غريبين، ولدى أحد الآكام خارج غرناطة، نظر السلطان السابق إلى غرناطة وأجهش بالبكاء، فقالت له أمه: "ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال"، وقد دعيت هذه الأكمة فيما بعد بزفرة المسلم الأخيرة. هكذا انتهت دولة الإسلام بالأندلس، بعد أن خلدت ذكراها بحضارة كانت مضرب الأمثال في التقدم والرقي، وتركت خلفها أثارا تتحدث عن عظمة الأندلس، وإذا كانت دولة الإسلام ذهبت فإن المسلمين، وكانوا يشكلون 20% من نسبة سكان شبه جزيرة إيبيرية، بقوا بعد ذهاب الدولة يعانون الأمرين من سادتهم الإسبان، فلم يحفظ لهم فرناندو وإيزابيلا وعودهما بحرية العبادة، وانساقا وراء ضغوط الكنيسة الإسبانية وبدأت عمليات إجبار المسلمين على دخول المسيحية، ففي عام 1499م بدأ مطران طليطلة خمينيث دي ثيسنيروس عمليات تنصير إجبارية وأمر بتحويل المساجد إلى كنائس، وجمع كتب المسلمين، وكانت تعد بالألوف، وأضرم فيها النار، وهي سياسة أدت إلى ظهور ما يعرف بشعب الموريسكيين وهي صيغة تصغير أو تحقير من موروس أي مسلمين، وصارت تعني من الناحية العملية النصارى الجدد، أو المسلمين المنصرين سواء كانوا من مواطني مملكة غرناطة أو المدجنين في سائر أنحاء إسبانيا، وهم المسلمون الذين آثروا البقاء في ديارهم بعد سقوطها في أيدي الإسبان في المراحل السابقة لسقوط مملكة غرناطة.

وتعرض الموريسكيون لعمليات اضطهاد منظمة طوال القرن السادس عشر الميلادي، قبل أن يصدر الملك فيليب الثالث في عام 1609م قرارا بنفي الموريسكيين نهائيا، لتقطع بذلك آخر ذكرى حية للأندلس، وتصبح ذكرى في كتاب التاريخ.