مارسيل والأصدقاء

نشر في 21-10-2012
آخر تحديث 21-10-2012 | 00:01
 ناصر الظفيري "عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو

وأحرسهم من هواة الرِّثاء

أقول لهم

تُصبحون على وطن

من سحابٍ ومن شجرٍ

من سراب وماء

أهنئهم بالسلامةِ من حادثِ المُستحيل"

محمود درويش

تعرفت إلى الفنان الكبير مارسيل خليفة عن طريق شاب لبناني في أول رحلة غريبة وممتعة من الجهراء إلى باريس، في أول حياتي مطلع الثمانينيات، ووعود من العاصفة، وهو أول لقاء فني يجمع الشاعر الذي تربع على قمة الشعر العربي في القرن الماضي، رغم الاختلاف الكبير معه سياسيا، محمود درويش والفنان الكبير مارسيل خليفة، الذي التزم الى أقصى حدود الالتزام بمعنى الأغنية ورسالة الفن، مناوئا كل اغراءات الفن الجديد الذي انحدر الى ما يمكن وصفه بالابتذال والانحطاط، مع تنامي عدد فضائيات العري وانعدام الخط الفاصل بين الصوت والجسد.

كان "وعود من العاصفة" عملاً مبشراً بثورة جديدة صاحبها ظهور الشيخ امام وأحمد فؤاد نجم في مصر، وفي الحالين لم تستطع القنوات الرسمية حينها أن تتقبل هذا الانقلاب على مفهوم الأغنية، وخروجها من دورها الطربي والترفيهي الى أدوار محرضة للشباب، وتشكيل وعي فني وثوري، ليس على الأغنية السائدة فقط وإنما على المفهوم الجديد للغناء ودوره الذي تحسست منه تلك الإذاعات خطرا قادما على النشء الذي ارتبط بجديد مطربي الأعياد وحفلات الميلاد والأعراس، فقررت تجاهله وعدم تكريسه مثالا جديدا للمغني المثقف وصاحب الموقف السياسي.

في عام 1988 حضر مارسيل وفرقته الميادين الى الكويت بدعوة من اتحاد نساء فلسطين لإقامة ثلاث أمسيات، حتى لا أقول حفلات، يذهب ريعها لأطفال الانتفاضة الأولى التي انطلقت من جباليا عام 1987. كانت الأمسيات في سينما السالمية، ورأيت الأستاذ مارسيل خليفة للمرة الأولى على المسرح ثلاث مرات متتالية. كان الزمان يومها غير الزمان وكان العدو خارج الحدود، قبل أن يصبح داخلها، وصوت الحناجر تتحد والحجر. قبل أن تنقلب الموازين فيحتل جارنا الشمالي أرضنا ويشردنا، ويقتل أجمل شبابنا وأصدقائنا، وقبل أن يخرج لنا زعماء المقاومة ويخرجون أسلحتهم التي ادخروها لمقاتلة طلبة الحرية في بلادنا العربية.

كان مارسيل خليفة وحفلاته الثلاث، وما تلا ذلك من أغنيات مقاومة، تربطنا دائما بأصدقائنا في ذلك الصف الأمامي الطويل للمسرح حيث جلسنا. أصدقاؤنا الذين رحلوا لسبب أو لآخر.

حتى جاء أول أكتوبر الحالي، وتم الإعلان عن زيارة مارسيل خليفة لكندا، وإقامة أمسيات في عدد من المدن الكندية. إحدى الأمسيات في العاصمة الكندية وفي مسرح السنتر بوينت على بعد دقائق من سكني. كان الزملاء يعرفون مكانة مارسيل خليفة عندي، وسألوني أن أذهب معهم، وأذهلهم أنني أرفض دون أن يفهموا لماذا. أما أنا فكنت أخاف أن أعود بذاكرتي لكل التفاصيل التي ارتبط بها اسم الفنان بأسماء أحبة تركوا أثرهم على القلب ومضوا دون وداع يليق بنا. إلا أنهم أحضروا لي تذكرة وتركوها على مكتبي وأنا أتردد. كنت أخشى أن أتذكر، وأن تتسرب أجمل أيامي بين أصابعي.

الأمسية في السابعة مساء وعملي لم ينته بعد. في الساعة الخامسة اتصلت زوجتي تخبرني أن ألتقيها في المستشفى، لأنهم نقلوا ابني الأصغر إلى هناك. أمضينا الليلة الى جواره وأنا أنظر الى ابني وأشكره أنه أنقذني من أيامي. لكن الأصدقاء وبحسن نية أحضروا لي تسجيلا كاملا للحفل أستمع إليه وحيدا وكأنني مازلت أنظر الى وجوههم في حفل سينما السالمية والأمكنة الأخرى التي غادرناها جميعا في أزمان متفاوتة.

back to top