كتاب غربيون وعرب تساءلوا متعجبين عن المظاهرات العنيفة غير المعقولة التي خرجت للشوارع تحرق وتدمر وتقتل بعد نشر شريط اليوتيوب المسيء للرسول من أحد النكرات في أميركا... لماذا خرجت تلك الجماهير قبل ذلك احتجاجاً على صور كرتونية نشرت بمجلة دنماركية، ثم قتل أحد المهووسين المخرج "فان غوغ" لعمل سينمائي، وقبل ذلك بسنوات أهدر دم الكاتب سلمان رشدي بعد فتوى من الإمام الخميني.

Ad

ما حكاية هذه الشعوب العربية والإسلامية (بالتحديد باكستان، موطن الإسلام الجهادي منذ الثمانينيات)؟ ولماذا لا تعرف هذه الجماهير الفرق بين ممارسة الأفراد حرياتهم في التعبير مهما كانت مسيئة لمعتقد أو دين ما، وبين خطاب الكراهية المجرم في عدد من الدول الأوروبية (ليس في الولايات المتحدة) مثل إنكار محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية؟

لماذا لا تفصل تلك الجماهير بين الأمرين وتخلط الحابل بالنابل، و"يتشاطر" بعض أشباه المثقفين والكتاب بأن تلك الدول تكيل بمكيالين في حرية التعبير، فحلال عندهم الإساءة للمسلمين وحرام إنكار المحرقة الكبرى لليهود!

ويسأل هؤلاء الكتاب: لماذا لا تعرف تلك الجماهير معنى التعديل الأول للدستور الأميركي الذي يقدس ممارسة حرية التعبير، ويمنع كل عمل يحد منها، ولماذا لا تدرك تلك الجماهير الفرق بين عمل الدولة كذات سيادة حين تسيء لمعتقدات البشر، وبين عمل الأفراد مهما كانت عنصريتهم وتغطرسهم ضد المسلمين وغير المسلمين وكل غير المنتمين إلى العرق الأبيض الأوروبي!

هل كسب العرب من قتل السفير الأميركي في بنغازي؟ وهل انتصرنا حين رفع المتظاهرون في مصر والكويت وغيرهما أعلام القاعدة ورددوا شعارات التعظيم لأخطر مجرم عقائدي في العشرين سنة الماضية وهو أسامة بن لادن؟ هل ردود الفعل، مهما كانت أسبابها، تبرر مثل الشعارات! أليس هذا يؤكد نظرية مفكر متعال مثل "غوستاف لوبون" حين وصف سيكولوجية الجماهير بأنها غير عاقلة ومتطرفة؟ ثم لماذا نتهم الغربيين بالكيل بمكيالين بينما نحن نكيل بألف مكيال، فما أكثر الأفلام والأدبيات الكتابية التي أساءت للمسيح ولليهود، ولم تخرج جماهيرهم تقتل وتدمر هناك مثلما حدث في دولنا، هل السبب هو الفقر، فمتظاهرو العرب طالبوا (كما كتب كاتب إنكليزي متهكماً) بأن تصير حالهم مثل حال أهل النرويج في البحبوحة الاقتصادية...! مع أن دول الخليج أكثر بحبوحة من تلك الدولة الإسكندنافية.

أيضاً، لماذا صمت البوذيون وغير البوذيين عن تدمير تمثال بوذا (وهو من الآثار التاريخية التي هي ملك الإنسانية) في أفغانستان من السلفيين الجهاديين قبل سنوات بسيطة، واليوم يدمر رفاقهم مساجد الصوفيين التاريخية في الشمال الإفريقي، وهي كذلك ملك التاريخ الإنساني وليست خاصة بالصوفيين الذين يتعرضون هذه الأيام لحملة اضطهاد رهيبة من الجماعات التي تدعي أنها وحدها صاحبة الإسلام الصحيح! وكيف لنا أن ندين الغربيين وعندنا دعوات فاشية دينية تطالب بهدم كنائس المسيحيين في الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى تمارس كل صور الاضطهاد للشيعة في خطاباتها اليومية.

شارلس كرثمور في البوست – مهما اختلفنا على يمينيته - يقرر في مقال له سقوط مبدأ أوباما، الذى دعا إلى حريات وديمقراطية الشعوب العربية عام ٢٠٠٩ في جامعة القاهرة، ودعت إدارته إلى تكريس الديمقراطية في دولنا، ووقفت هذه الإدارة مع ثورة مصر وتونس، وساندت ثوار ليبيا، فردت تلك الجماهير التحية بأجمل منها كما حدث في بنغازي والقاهرة وعدد من العواصم العربية...! ألا يتحسر الأميركان اليوم على الأيام الذهبية للديكتاتوريات الفاسدة قبل الربيع العربي، ألا يوسوسون مع أنفسهم ويقولون: إن هذه الجماهير مازالت غير مستعدة لعصر الحريات ولاسيما مبدآ التسامح، وحرية الضمير.

لا يبدو اليوم أن حلولاً سحرية ستأتي في القريب لحالة "الخراب العربي" أمام التعصب الديني والمذهبي... ويبقى الأمل أن تتحرك القوى الإسلامية المعتدلة (والإخوان المسلمون هم خير من يمثلها بما يملكون من رصيد شعبي كبير في عالمنا المفتت) لنشر الوعي الإنساني في مسألة الحريات والديمقراطية، وأن يبادر العقلاء منهم لتصفية القوى المتطرفة المحسوبة عليهم، فأوروبا قبل الثورة الفرنسية مرت بما نمر به اليوم، وكانت بداية طريق التنوير هي شعلة أنارها جماعات وأفراد الإصلاح الديني، ولا حل بغير هذا... فليتحمل الإخوان عبء المسؤولية التاريخية، فالطريق طويل ونحن مازلنا في البداية... أما الرهان على أنظمتنا كما يتوهم الحالمون فهذا هو الوهم الكبير.