ما من قصيدة مؤثرة في الشعر الغربي إلا ولها صدى ما في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. وعادة ما يحفزني أحدهما على السعي لمعرفة صداه في الآخر. ولأني كثيراً ما تسقّطتُ في عمودي الثقافي هذا أعمالاً ثلاثية الإثارة في الشعر والموسيقى والرسم، فلا بأس من أن أضيف عليها إنجازاً جديداً جاء من موسيقي إيطالي شاب.
قصيدة «أغنية الملاح القديم» للشاعر الإنكليزي «كولَرِج» أكثر من مألوفة. فهي حكائية، عادة ما تحيط بها في الطبعات الكثيرة لوحات الفنان الفرنسي غوستاف دوريه (توفي عام 1883). كتبها الشاعر عام 1798، ونشرها ضمن «قصص غنائية» أصدرها مع صديقه المقرب وردزورث. والقصيدة لا تخلو من إرباك بدءاً من العنوان، ففيه إرباك في التهجية، وآخر في الدلالة. فالشاعر استعمل مفردة rime، وليس rhyme التي تعني القافية. ولكن rime تعني «صقيعاً» أيضاً، خاصة الصقيع الذي يتشكل في الضباب والريح الباردين. ومعظم زمن القصيدة يتواصل في منطقة القطب الشمالي. وترجمة rime إلى أغنية وليدة اضطرار متأرجح بين التقفية والصقيع. حتى إني سألت شاعرين إنكليزيين فما انتفعت.القصيدة تعتمد المقاطع الرباعية:بحارٌ قديمٌ/ أوقف شاباً من بين ثلاثة شبان./»بلحيتك الشائبة وعينك اللامعة،/لأي علة أوقفتني؟»هذا البحار العجوز يستوقف شباناً ثلاثة متجهين إلى حفلة عرس. يفلت اثنان ويضطر ثالثهم، بفعل تأثير سحري في عيني الملاح، إلى البقاء مصغياً إلى حكاية ترحاله البحري، وكيف أنه لمح طائر القطرس (طائر بحري كبير) يلاحق السفينة، ويؤثر، كفأل حسن، على توجهها بعيداً عن متاهة القطب المتجمد، وكيف أن خبلاً وشوش بعقله فقتل الطائر، فلاحقت اللعنة السفينة وبحارتها عبر أهوال، حتى علقوا الطائر القتيل على رقبة الملاح القديم، فلصقت به مشاعر الذنب، بل الخطيئة التي لا تخلو من صبغة مسيحية، تلاحقه إلى الأبد:يوماً بعد يوم، يوماً بعد يوم/ حُشرنا، لا أنفاس ولا حركة./ مُعطّلين كسفينة مرسومة/ على سطح بحر مرسوم.ماءٌ، ماءٌ حيث ننظر،/ وجوانب السفينة تنكمش./ ماءٌ، ماءٌ حيث ننظر،/ وما من قطرة صالحة للشرب.الرائع في القصيدة ليس في دلالتها الأخلاقية، التي تبدو غير مقنعة أحياناً، بل في التفاصيل الشعرية الخالصة المتعينة في الصور وتدفق المشاعر، في أفق بالغ العتمة، بالغ الصقيعية، ومشاعر الذنب. وهذه عناصر دراما كفيلة بتهيئة القصيدة، لا لريشة الفنان الفرنسي دوريه وحده، بل لألحان الموسيقي الإيطالي الشاب فرانتشيسكوني (مواليد 1956)، الذي وضع أوبرا رائعة بعنوان «ملاتّا» (لم أقع على معنى محدد لها!). وفيها يواجه بحار الشاعر كولرج عالمَ الطبيعة، المعادي بعنف وعناد، العالم الذي يظل لا مبالياً بصورة حادة لحاجاته ومتطلباته. ولأن الاستجابة لحالة كهذه تتطلب حاسة واعية بضرورة توفير الحجم الديناميكي الضخم المناسب، كان الموسيقي الشاب واعياً لهذا، وهو متطلب متوفر في طبيعة مؤلفاته الأوبرالية الأخرى. والرائع أن النص الشعري الذي أعده الشاعر الإيطالي «فيوري» عن قصيدة كولَرِج كان طيعاً وملائماً لطبيعة بناء العمل الموسيقي، الذي كان عبارة عن تتابع حلقات مسرحية تعتمد مشاهد وصور غير بعيدة عن تلك التي في النص الشعري الأصل. نص الأوبرا الشعري يستحق أن يُقرأ مستقلاً عن الأوبرا وعن نص كولرج معاً.إن مقتل طائر القطرس يبدو أكبر من مجرد إثارة للذنب في أعماق البحار التي تنطوي على طيات صقيع. بالرغم من أن قتل طائر كهذا في زمن الشاعر كولَرج كان يُعتبر جريمة ضد الخليقة. وبالرغم من ثِقل تأثير فكرة الخطيئة المسيحية المتجذرة في أعماق الشاعر، حتى ليبدو قتل الطائر أشبه شيء بتناول آدم لتفاحة الفردوس المحرمة.هذا العبء الانساني في القصيدة تمثلتها الأوبرا في توتر موسيقي غاية في التأثير. وكأن على البحار أن يتطهر داخل جحيمه الانساني هو. ومن أراد أن يأخذ فكرة عن الأوبرا عبر شواهد قصيرة، فله أن يرجع إلى موقع youtube.
توابل - ثقافات
أغنية الملاح القديم
01-11-2012