«مملكة النمل» و{لما شفتك» فيلمان عن القضية الفلسطينية عرضهما مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الخامسة والثلاثين، يعكسان بدرجة كبيرة فارق المعالجة والتناول بين مخرجين ينتميان إلى ثقافة مختلفة، ووعي سياسي متباين.

Ad

يمزج المخرج التونسي شوقي الماجري في «مملكة النمل» بين الأسطورة والواقع، ومنذ اللحظة التي تظهر فيها العناوين يبدو واثقاً من المغزى الذي يريد، والرسالة التي يتبناها ويود تمريرها؛ حيث اختار الجدار العازل أرضية لرسومات فنان الكاريكاتور الفلسطيني الراحل ناجي العلي، وتختلط على الجدار طائرات الأطفال الورقية بالهليكوبتر التي تعصف والدبابات التي تدمر، بينما وجوه الفدائيات الفلسطينيات الشهيرات يُرصعن التترات.

 لكن الماجري، والفيلم بأكمله، يتأرجح ويتخبط بين الرمز والأسطورة والواقع والملحمة، ويترنح تحت وطأة الخطابة، العظة المباشرة، والأسلوب المدرسي الذي عفى عليه الدهر في تناول القضية الفلسطينية؛ حيث المواجهات العبثية بين الفلسطينيين العزل وعدو متجبر مختال بعدته وعتاده، والصورة التقليدية للضابط الإسرائيلي الذي ينكل بضحاياه، والسماء التي تغضب بسبب ما يتعرض له الفلسطينيون فتبرق وترعد، بينما يهطل المطر علامة على أن الخير قادم!

هذه «الكليشيهات» فضلاً عن {المونولوجات» الطويلة أفسدت صورة الفيلم وإيقاعه، بينما كان بمقدور المخرج شوقي الماجري، الذي شارك في كتابة السيناريو مع خالد الطريفي، تركيز جهده وفيلمه في الخط «الميثولوجي» (الأسطوري) من خلال «مملكة النمل»، التي تعتمل في العقل، وتجد لها مكاناً على أرض الواقع في الكهوف والمغارات والسراديب التي تقود إلى المدن الفلسطينية قاطبة، وعلى رأسها القدس، في تأكيد على عروبة فلسطين، والمغزى واضح في الباطن «الجغرافي» الذي لا ينفصل عن الباطن «التاريخي»، وسحر الرؤية والمكان وغموضهما، وحكايات الجد التي تؤصل الحق التاريخي، وتوصل الماضي بالحاضر وتُبشر بالمستقبل.

أساطير وطقوس الخصوبة، والسلسال الفلسطيني الذي لا ينقطع، والحق الذي لا يموت ووراءه مُطالب، بالإضافة إلى الطقوس الفولكلورية الفلسطينية، ثروة نادرة لم يستثمرها الماجري والطريفي بالشكل الكافي في ظل انحيازهما إلى الشكل الواقعي؛ حيث الممارسات الهمجية للعدو البربري، الذي ينكل بالفلسطينيين، ولا يتورع عن دك مدارس الأطفال، وقصف قبور الموتى، وبطولة هذا الشعب، وقدرة شيوخه وكهوله وشبابه ونسائه وأطفاله على الصمود والمقاومة، وإيمانهم الذي تتراجع أمامه الدبابات، والحياة التي تولد من بين الأنقاض، وحب التراب الفلسطيني الذي يرثه الأبناء من الأباء والأجداد، وهول المأساة التي تضطر الأباء والأجداد إلى دفن الأبناء والأحفاد؛ فالقضايا كثيرة، والرؤية تعاني تشوشاً واضطراباً، وثمة رغبة مستحيلة في بث رسائل عدة أثقلت إيقاع «مملكة النمل» وأزعجت المتلقي.  

«المراهقة السياسية» التي تجلت بوضوح في فيلم «مملكة النمل» انقلبت إلى «رومانسية ثورية» في فيلم «لما شفتك»، الذي تدور أحداثه عام 1967؛ فالمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، التي تقيم في الأردن، اختارت حقبة الستينيات بوصفها الفترة الخصبة للنضال الوطني، الذي لا تحركه مصالح ولا يخضع لحسابات، وطوال الوقت كانت حريصة على ألا تخدش وعي المشاهد بمواقف عنترية أو خطب جوفاء وشعارات رنانة، من خلال قصة بسيطة في شكلها عميقة في مضمونها ومغزاها حول الصبي الفلسطيني الذي تدفعه ظروف الاحتلال الإسرائيلي إلى النزوح مع والدته إلى الحدود الأردنية، لكنه لا يطيق الحياة في مخيم اللاجئين، ولا يتكيف مع سكانه، كما يفتقد والده، الذي لم يوضح الفيلم مصيره، ويتخذ قراراً بألا يتراجع عن العودة إلى الوطن، مهما كان الثمن، ويغادر المخيم تاركاً أمه في حيرة وقلق بالغين، وفي طريقه يلتقي مجموعة من الثوار، الفدائيين، الذين تُدرك من حواراتهم الدور الذي لعبه في تسليحهم الاتحاد السوفياتي والصين، التي يُشير إليها كتاب تتصدر غلافه صورة الزعيم ماوتسي تونج، ويندمج الصبي مع الثوار في معسكرهم، ويتسلل إلى قلوبهم بروحه البريئة وشجاعته وجرأته وإصراره على الانضمام إليهم، ولا يغير وصول الأم من الأمر شيئاً، بل يُزيد الصبي تشبثاً بتنفيذ ما انتوى عليه، وذات ليلة يغافل الجميع، ويهرب إلى الحدود، وهناك يرصد الدوريات الإسرائيلية بدقة قبل أن يتسلل خفية. في تلك اللحظة، تصل الأم وعدد من «الثوار» لإنقاذه من غدر العدو، وبدلاً من أن تعنفه الأم أو تحثه على التراجع تضع يدها في يده، ويعبران الحدود معاً ليحققا «حلم العودة»!

مرة أخرى، وأخيرة، اتسم فيلم «مملكة النمل» بخشونة ومباشرة، لم يُخفف من غلوائهما سوى الاختيار الجيد لمواقع التصوير، بينما اقتربت المخرجة آن ماري جاسر من الصراع الذي لن ينتهي مع الكيان الصهيوني برومانسية مفرطة ورقة بالغة، ونجحت في اختيار وتوظيف ممثليها الذين اتسم أداؤهم بالتلقائية والصدق، على عكس منذر رياحنة، الذي ظهر في «مملكة النمل» تائهاً وشاحباً وباهتاً، وكادت الموهوبة صبا مبارك أن تلحق به، غير أن الأهم في هذا السياق أن المخرجة آن ماري جاسر أثبتت أن «المقاومة» يمكن أن تكون بسلاح «الرومانسية»!