أحفاد فضة
(فضة) هي أمي، وقد توفاها الله مطلع الثمانينيات بعد أن رزقها البنين والبنات. والآن أصبح لهؤلاء البنين والبنات أبناء وأحفاد، منهم من شب عن الطوق ومنهم لا يزال يافعاً أو طفلاً. والآن وقد مرّ ما ينوف على الثلاثين عاماً على وفاة أمي بدأتُ أدرك أن جيل أحفاد فضة لا يكادون يعرفون عنها غير الوجه القديم في الصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض. وهذه الصور بدورها بدأت توغل في النسيان وتتقطّع بينهم وبينها الأسباب منذ أن حلّت تكنولوجيا الديجيتال وكاميرات الآي فون بالغة الدقة محل الذكريات والوجوه الغاربة.بدا لي أن أبناء اليوم لا يحفلون كثيراً بسيَر آبائهم وأمهاتهم، فما بالك بتاريخ أجدادهم وجداتهم، فكل ما يقع تحت أيديهم من أجهزة التكنولوجيا المتطورة لا ينفك يبهرهم بعظمة اللحظة الآنية ليس غير، حين تنثال عليهم في ضغطة زر واحدة ما يشاؤون من علوم الدنيا وأخبارها وصورها ومشاهدها. وأمام تلك الشاشات السحرية التي تسرق البصر والبصيرة ما عادت الحكايات عن الراحلين تجد متسعاً من الانتباه، ولا الإرث العائلي من مخزون الذكريات والأحداث يجد وقتاً لدى الأبناء أو فسحة للتعلم والتدبّر.
وكان لا بد أمام هكذا حالة من التشرذم بين الأجيال أن (نداوي بالتي كانت هي الداء). بمعنى أن نحاول تكريس أدوات العصر في خدمة التعريف بالراحلين ونشر شيء من عبق زمانهم وحكاياتهم عبر برنامج (الواتس آب) بالآي فون، أملاً في إحياء تلك الآصرة من علائق القربى والنسب وصلة الرحم. وبدأت الفكرة بإنشاء (قروب أحفاد فضة)، وهو يضم مجموعة الأبناء والأحفاد من الجيل الأول والثاني، حيث يتم التواصل ضمن أعضاء المجموعة وتبادل المعلومات والتعليقات والصور العائلية النادرة. وكنتُ قد أخذت على عاتقي كعضو من أعضاء (القروب) التعريف بجدتهم فضة/ أمي، وتدوين ما كنتُ قد سمعته منها حول ذكريات طفولتها وظروف نشأتها وأحوال ذلك الزمان، أو ما اختزنته من ذكريات وأحداث وحكايات تخص أمي وما أحاطها من شبكة الأقارب والأهل ومتعلقات الزمان والبيئة. ولما كان برنامج (الواتس آب) لا يتسع إلا لبضع فقرات كحال لغة هذا الزمان المختزلة، فقد كانت المعلومات والصور تُرسل على حلقات وفقرات مختصرة لتتناسب وإيقاع الوقت والظرف في حياة الأحفاد. وقد بدأت أقتنع بأن هذه التكنولوجيا العصرية وسيلة رائعة لأرشفة ما تناثر من وثائق وذكريات وصور، ووضعها قيد الحاجة والطلب بلمسة إصبع.أستطيع أن أقول بأن (قروب أحفاد فضة) كان تجربة ناجحة بكل المقاييس. فقد اكتشفتُ مدى حاجة الجيل الجديد للمعلومة والصورة والحكاية عن السابقين من الذين تقطعت بينهم وبين اللاحقين الأسباب، لبعد الشقة الزمنية أو لندرة الحوارات الحميمة وجلسات التذكّر والاستحضار لتلك الوجوه والأزمنة، بعد أن تغيرت طقوس العلاقات الأسرية واندثرت حكايات السمر وقصص ما قبل النوم. وقد كنتُ أعمد لإرسال تلك المعلومات عبر الآي فون مسلسلة تحت عنوان (مشاهد من سيرة فضة)، وهذان نموذجان من تلك السلسلة:«من ذكريات فضة حول طفولتها في تلك الفرجان أحاديثها عن الصلات الحميمة بين الجيران والتي كانت تقوم على التكافل وتفقد الأحوال والمشاركة في تفاصيل الحياة اليومية. ثم تذكر جارهم الذي كان يعطف عليها كثيراً ويخصها بالحنان، وغالباً ما كان يطلب منها حين يمرض أحد أبنائه أن تملأ كوباً من الماء وتقف به عند باب المسجد لينفخ فيه المصلون حين يخرجون واحداً واحداً، لتعود به أخيراً ليشربه الطفل المريض فيشفى! كانت تضحك وهي تتذكر نفسها ببخنقها الكالح في تلك الوقفة منتظرة من ينفخ ومن يبصق، ثم تعلق بأن الناس كانت نواياهم صادقة وصافية وكان الله يرزقكم الشفاء على قدر نياتهم».«ومن الحوادث المهمة التي روتها فضة عن حياة أبيها الجد محمد ادريس حادثة إصابة رجله بعاهة مستديمة نتجت من سقوط (الدقل) اي صارية السفينة على فخذه التي أصيبت بكسور بليغة، الامر الذي اقعده في المستشفى الامريكاني لشهور طويلة من العلاج. ولولا رحمة الله وتدخل الشيخ علي الخليفة لتم بتر الرجل المعطوبة. وعلي الخليفة هذا كان نزيلاً في نفس المستشفى يتعالج من جروح احدى المعارك الحربية ربما معركة الجهراء، ويبدو انه اشفق على حال محمد ادريس وأمر الطبيب بالصبر على علاجه وعدم اللجوء الى بتر الرجل».