كنت في الكويت للمشاركة في ندوة حوارية حول "الدولة المدنية والدولة الدينية" في ظل انتفاضات عربية أوصلت إسلاميين إلى السلطة لهم أيدلوجية مغايرة، وهي ندوة فكرية متخصصة نظمتها مجلة "عالم الفكر" برعاية من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وجدت القوم هناك منشغلين بالعملية الانتخابية الجديدة وفق نظام الصوت الواحد، وهم بين مؤيد للمشاركة ومعارض لها، يدعو إلى مقاطعتها وينظم مسيرات ضدها.

Ad

ما لفت نظري هذه المرة، مقارنة بالمرات السابقة، ثلاثة مظاهر جديدة اتسمت بها الانتخابات الحالية:

الأول: الأجواء الانتخابية أصبحت هادئة فلم أشهد صخباً أو صراخاً وضجيجاً وعنفاً، كما لم أشهد حملات دعائية متخاصمة يطعن فيها المرشحون بعضهم في بعض وفي الحكومة، لهجة الخطابات السياسية أيضاً أصبحت مختلفة تماماً، فلا تهديد ولا شتم ولا تخوين ولا طعن، ارتفع مستوى الحوار السياسي وأصبح صحياً مثمراً، وهناك قواسم مشتركة في لغة المرشحين تركز على كويت المستقبل، كويت التنمية والإنجاز.

التزم المرشحون بضوابط الدعاية الانتخابية وخلت الساحة من مظاهر العنف الانتخابي ومن عمليات شراء الأصوات، كما اختفت تماماً ظاهرة الانتخابات الفرعية المجرَّمة قانوناً، وغابت عمليات التحالفات والتربيطات الانتخابية السابقة، وأيضاً، وهذا أمر جدير بالتنويه، التزمت الجهات الدينية والتزم الخطباء المحسوبون على الإسلاميين بالقانون، فلم يتم توظيف منابر المساجد في الدعاية الانتخابية. كان هناك حث من خطباء على ممارسة الحق الانتخابي كأمانة ومسؤولية، وهذا لا يتعارض مع القانون، كما أكدت المفوضية الأهلية لشفافية الانتخابات، التي أوضحت أن المجرَّم قانوناً هو استخدام دور العبادة للتصويت لمصلحة مرشح معين أو الإضرار به، هذه المظاهر السلبية كانت تلازم عادة الانتخابات السابقة منذ 1981م.

المراقبون يعللون هذا التطور الإيجابي للممارسة الانتخابية بأن الكويت اليوم تجني ثمار "الصوت الواحد" الذي صحح مسار العملية السياسية على نحو يجعل البرلمان ممثلاً لكل قوى وفئات الشعب، وقد توقعوا أن تسهم الآلية الجديدة، أي الصوت الواحد، في القضاء على الاعتبارات الطائفية والقبلية في التصويت، ولذلك طبقاً لتقرير صحيفة "السياسة" التي نقلت عن النائب السابق ناصر الدويلة قوله إن النظام الانتخابي القديم القائم على 4 أصوات كرس القبلية والطائفية والطبقية والتوزيع غير العادل للدوائر وأخل بمبدأ تكافؤ الفرص، لكن تعديل آلية التصويت إلى "الصوت الواحد" ساهم في حفظ روح المواطنة وحرر النائب من قيود الطائفية والقبلية.

الثاني: تميزت الانتخابات الجديدة بظهور وجوه شبابية جديدة وبأفكار ورؤى وبرامج جديدة تركز على كويت المستقبل، هؤلاء قادمون بروح جديدة وبممارسات برلمانية مختلفة عن الممارسات السابقة والتي اتسمت بالمشاحنات والاتهامات وتدني لغة الخطاب وإساءة حق الاستجواب، وكان من آثارها تعويق التنمية وتخلف التشريعات واستشراء المحسوبيات والتجاوزات، يعبر عن هذا الأمر المرشح أسامة الطاحوس فيقول: "لقد هرمنا من الأفكار والوجوه القديمة التي لا تتغير أبداً وكفانا نواباً من الثمانينيات استنفدوا أفكارهم بعيداً عن أحلام وطموحات الشباب، وعلى هؤلاء المخضرمين ترك الساحة للجيل الجديد ليثبت نفسه ويصل إلى البرلمان من أجل مستقبل جديد للكويت". والحقيقة أن فرصة هؤلاء الشباب للوصول إلى البرلمان كانت مستحيلة في ظل النظام السابق القائم على 4 أصوات الذي كان يغذي التكتلات الحزبية والطائفية ولا يسمح للوجوه الشبابية الجديدة المستقلة عن تلك القوى التعصبية بالظهور، فإذا لم تكن تابعاً لطائفة أو تكتل أو حزب فلن تتاح لك فرصة للنجاح، الصوت الواحد اليوم أتاح الفرصة للشباب كما أتاح الفرصة للأقليات لأن يكون لها تمثيل عادل في المجلس القادم، فقد كان المجلس السابق عنترياً لكنه كان مختطفاً لمصلحة قوى عصبوية ذكورية أقصت المرأة الكويتية، وهي أكثر من نصف المجتمع، من الوجود فيه.

الثالث: أتاحت هذه الانتخابات فرصة ذهبية للمرأة الكويتية لترشيح نفسها والوصول إلى البرلمان الذي حرمت منه في ظل النظام السابق الذي كرس القبلية والطائفية وأقصى المرأة، لذلك انتهزت المرأة الفرصة السانحة وترشحت 14 امرأة والآمال كبيرة في وصول بعضهن إلى المجلس الجديد، والجدير بالذكر أن المراهنات كبيرة على المرأة ودورها الانتخابي، هناك من يتوقع مشاركة نسائية هي الأكبر في تاريخ الانتخابات، تقلب الموازين وتصحح المسار، تقول دلال النصف في مهرجان "مشارك بعمار الكويت": "سيكون صوتنا هذه المرة عالياً مدوياً مجلجلاً، فنحن الأكثرية ونحن الذين سندفع البلاد نحو نهضة تنفع أبناءنا وأحفادنا، انتهى عهد الصمت".

هذه أبرز المظاهر الجديدة التي يمكن رصدها في ظل نظام الصوت الواحد وفي إطار الدوائر الخمس، وهي تجربة جديدة يأمل المراقبون أن تفرز مجلساً جديداً "متعاوناً" مع الحكومة فيما هو محقق للمصلحة الوطنية وفي دفع عجلة التنمية، علماً بأن التعاون مع الحكومة فيما هو إيجابي ليس تهمة بل هو أمر محمود، إذ ليس مما يشرّف أي برلمان أن يكون مؤزماً شاهراً سلاح الاستجوابات على طول الخط، في هذا يقول الكاتب سامي النصف: "ما ألطفها وأروعها من تهمة توجه للمجلس القادم وهو أنه سيكون مجلساً متعاوناً مع الحكومة التي لم تشكل بعد، إن نجاح الحكومة القادمة هو نجاح لدولة وشعب الكويت وفشل الحكومة هو فشل لنا جميعاً".

وأود أن أضيف: لقد سئم الكويتيون الممارسات البرلمانية العقيمة، ملوا المشاحنات والتشكيك في الذمم ولغة الصراخ والتهديد والوعيد، يريدون البناء والاستقرار، يريدون مجلساً مغايراً يكون سنداً في نهضة الكويت، يريدون مجلساً منقذاً يعبر بالكويت إلى مرحلة جديدة مغايرة للمرحلة السابقة، يريدون إنهاء حقبة كلفت الكويت كلفة عالية: مالاً وجهداً وزمناً، ويريدون حكومة قوية لها برنامج واضح المعالم قادرة على اتخاذ قرارات حازمة من أجل كويت المستقبل، أعتقد أن الكويت مقبلة على عهد جديد من الإنجازات والمشاريع التنموية الكبرى، فلا عودة إلى الوراء ولا رجوع إلى الماضي، هناك اليوم في الساحة الكويتية واقع جديد يتشكل على الأرض، هناك حقائق جديدة تظهر وتفرض نفسها، ولذلك أرى أن على هؤلاء الذين اتخذوا منهج المقاطعة أن يراجعوا أنفسهم في ضوء هذه المستجدات الطارئة، الكويت اليوم تطوي صفحة وتبدأ صفحة جديدة، أكتب هذه المقالة في يوم الصمت الانتخابي قبل ساعة الحسم ولا أدري ما هي النتائج والمخرجات... لكن دعونا نثق باختيارات الشعب الكويتي، دعونا نأمل ونتفاءل، فالكويت تستحق مجلساً مغايراً وحكومة ذات كفاءة.

* كاتب وباحث قطري