من يكتب القصيدة؟

نشر في 17-05-2012
آخر تحديث 17-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم بين الإنسان وبين الشاعر مساحة بالغة الخصوبة، تُكتب فيها القصيدة الجيدة. الإنسان، ابن الظرف الآني، الذي تتحكم به ردود الأفعال في المشاعر والأفكار، حين ينفرد بكتابة قصيدة، لابد أن تكون قصيدته وليدة ردود الأفعال هذه، بكل ما تنطوي عليه من مشاعر وأفكار آنية. والقصيدة الجيدة ليست وليدة ردود أفعال. النموذج المثالي لهذا النمط من الكتابة الشعرية يتعين في قصيدة المناسبة، والقصيدة السياسية المباشرة.

القصيدة الجيدة، حتى لو أوحت بها مناسبة، أو حدث سياسي، تسعى إلى تقليم هذه المناسبة وهذا الحدث من زمنيتهما، والانطلاق بجذوتهما إلى أفق الشعر الذي يتسم بالكلية. وكأن القصيدة هنا تنطلق من الزمني إلى اللازمني. من التاريخ إلى الأسطورة.

يتراءى لي أن أفق الشعر هذا هو أفق المساحة بالغة الخصوبة التي تتوسط بين الإنسان ابن الخبرة، وبين الشاعر داخله. القصيدة الجيدة تُكتب من جهديهما. ولأضرب على ذلك مثلاً لمزيد من الإيضاح: عدد كبير من القصائد الذي تكتبه الشاعرة العربية، وفي هذه المرحلة المتأخرة على وجه الخصوص، يُملى بصورة مباشرة من ردود أفعال الأنثى كإنسان. وبشأن حب موجه لذكر على الأعم. القصيدة في حال كهذه لن تخرج عن دائرة البوح، والصبوة الحالمة، والحشرجة العاطفية. هناك شيء ناقص يُبعد النص من اللمسة اللازمنية التي تتمتع بها القصيدة الجيدة. قصيدة الحب هذه تولّدت مباشرة من حاجة الإنسان -الأنثى إلى التعبير. لم تكن وليدة المساحة بالغة الخصوبة التي يُسهم فيها الشاعر الكامن داخل كيان الإنسان، لأن هذا الشاعر، لو توفر، لن يرتضي "ردة الفعل" العاطفية، والحاجة إلى التعبير المباشر عن المشاعر، والتي يتمتع بها كل إنسان دون استثناء. الشاعر يريد "فعلاً"، لا ردة فعل. يريد أن يأخذ جوهر خبرة الحب وينطلق بها إلى مدار بالغ الجدة، لا تحتفظ اللغة فيه بدورها كوسيلة، بل تصبح وسيلة وغاية في آن. لأن هذه اللغة تفلت من أسر المسعى النفعي، الذي تفرضه الحياة اليومية.

القصيدة التي تكتبها المرأة في الملاحقة العاطفية المشبوبة للرجل تبدو لي محرجة، ضيقة الأفق. ولا أحسب أن الشاعرة الجيدة، لو توفرت داخل كيانها الإنساني في لحظة التجربة الشعرية، سترتضي هذا الشاغل العاطفي سريع الزوال.

قصيدة الحب لدى الرجل لا تختلف كثيراً عن هذا. الشاعر الضعيف، حتى لو كان علَماً، لن يتخطى الملاحقة العاطفية المشبوبة للمرأة التي يحب. إنه في حقيقته لا يكتب شعراً حديثاً، بل غزلاً زمنياً، ضيّق الأفق. وهو تعبير عن حب قد يجد استجابة جماهيرية واسعة. ولكن لا شأن لهذه الجماهيرية الواسعة، وهي ظاهرة لا عيب فيها بالكتابة التي نسميها شعراً حديثاً. الظاهرة التي لا عيب فيها حاجة إنسانية واجتماعية، تنتسب إلى حقل التسلية. وهي حق مشروع من حقوق الناس. إن الشاعر الغزِل البارع يفتن الناس بالضرورة، لأنه يستجيب لحاجة عامة، تماماً مثل المغني الشعبي، أو المغني الجماهيري الذي تسعى وراءه الشبيبة للطرب والرقص. في حين تنفرد الموسيقى الجدية بقطاع من الناس يملكون آلةَ الإنصات، التي تتطلع إلى المدى العميق من المشاعر، في أنفسهم.

القاعة التي يقرأ فيها شاعر مثل نزار قباني تتسع سعةَ الجمهور الذي يعتمد ردة الفعل القلبية السريعة. في حين تضيق لشاعر مثل محمود البريكان، الذي يتطلب قلباً وعقلاً. يمكن للأول أن يحقق صورة النجم، في حين يكتفي الثاني بحصة لا تحقق التماعة النجم. بل تفرض عليه الحكمة قراءة الشعر في قاعة تحتضن جمهوراً مختاراً. صورة النجم تُفسدها الغطرسة، كما تُفسد الشكوى صورة الثاني الذي يطمع بالقاعات الكبرى.

المساحة بالغة الخصوبة بين الإنسان والشاعر الذي فيه تقف أحياناً كثيرة وراء الالتباس النقدي الشائع بشأن علاقة الشعر بالموقف الأخلاقي، أمرٌ أُرجئه لحديث قادم.

 

back to top