في الآونة الأخيرة، وبالتحديد منذ خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة قبل أسبوعين، طغت الخطوط الحمراء الحَرفية والمجازية على النقاش السياسي بشأن إيران. صحيح أن نتنياهو تحدث بصراحة تامة حين رسم الخط الأحمر الذي تريده إسرائيل في ما يخص موقع إيران النووي، لكن الرئيس أوباما تردد من جانبه في رسم خط أحمر خاص به، بل إنه وجّه رسائل مختلفة، لا بل متناقضة، إلى جمهورين: فدعا إسرائيل إلى التحلي بالصبر وحذر إيران وحلفاء الولايات المتحدة المترددين من أن "الوقت له حدود".

Ad

لكن تكمن المشكلة في واقع أن أياً من الجمهورين لم يصدّقه، ولمواجهة هذه المشكلة، يجب أن يرسم حدوداً أوضح عن قدرة تحمل الولايات المتحدة من خلال فرض خطوط حمراء خاصة به في الملف الإيراني.

صحيح أن البعض يعتبر الخطوط الحمراء مجرد حوافز تلقائية أو مهل نهائية تمهد لشن الحرب، ولكنها تهدف فعلياً إلى تسهيل المقاربة الدبلوماسية. بشكل عام، ترسم تلك الخطوط مسار القرارات المرتقبة من خلال تحديد ما تقبله واشنطن وما لا تقبله. لا شك أن الخطوط الحمراء التي تحددها الولايات المتحدة تكون حاسمة لفرض "قواعد اللعبة" في المجال الجيوسياسي (لا نعني بها القواعد الرسمية التي تحددها هيئات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، بل القواعد غير الرسمية التي توجه قرارات الدول بكل وضوح). تمهد الخطوط الحمراء لتحركات متوقعة وقد ترسخ الاستقرار أيضاً من خلال إعاقة الصراعات التي يمكن تجنبها وإرساء الجو المناسب لتطبيق المقاربة الدبلوماسية.

يجب أن تتسم الخطوط الحمراء بميزتين لضمان فاعليتها: القدرة على إنفاذها والمصداقية، تعني الميزة الأولى ضرورة أن يتناسب الخط الأحمر مع الخطوة التي يمكن رصدها ثم مواجهتها أو تجنبها، وتعني المصداقية أن يدرك الآخرون أننا سنلتزم بالخط الأحمر فور تجاوزه.

يفتقر الخط الأحمر الذي حددته الولايات المتحدة (لا تستطيع إيران امتلاك سلاح نووي) إلى الميزتين معاً، فلا يمكن إنفاذ ذلك الخط: إذا اقتربت طهران بما يكفي من امتلاك سلاح نووي، من خلال إنتاج مخزون من اليورانيوم المخصب الذي يسمح بتصنيع سلاح نووي، فستكون الخطوات الأخيرة لصناعة السلاح النووي سريعة وسرية على الأرجح، وبالتالي لا يمكن رصدها.

يفتقر الخط الأحمر الأميركي إلى المصداقية أيضاً، فلم تتحرك واشنطن لمنع البرامج النووية في كوريا الشمالية أو سورية، لقد فعلنا ذلك في العراق لكن مقابل ثمن باهظ جداً لدرجة أن تجنب تجربة مماثلة أخرى أصبح محور السياسة الخارجية الأميركية. من المبرر أن تشكك دول أخرى بمدى استعدادنا للتحرك كي نمنع إيران من اكتساب أسلحة نووية عندما يحين ذلك الوقت أخيراً.

تطبق إيران من جهتها استراتيجية حذقة تهدف إلى إضعاف الخطوط الحمراء الأميركية.

كما تتجه طهران تدريجاً نحو اكتساب إمكانات نووية مع تجنب الخطوات الدراماتيكية التي يمكن أن تسبب سخطاً دولياً ومن دون أن تظن الولايات المتحدة أن إيران تتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها، بل تحرص طهران على جعلنا نعتاد على "حالة نووية طبيعية" في كل خطوة تخطوها، وهي تتقدم حصراً حين تصبح إنجازاتها أمراً واقعاً.

من جهة أخرى، تحذر إيران بشكل متكرر من العواقب السلبية الناجمة عن الصراع العسكري، وقد تقبل المحللون والمسؤولون الغربيون الساذجون تلك التحليلات وباتوا يكررونها بأنفسهم، لذا من المستبعد أن يأمر هؤلاء المسؤولون يوماً بشن ضربة على إيران.

عبر نتنياهو خلال خطابه أمام الأمم المتحدة عن خط أحمر واضح: لا يمكن السماح لإيران بتجميع اليورانيوم "المتوسط التخصيب" الذي يكون كافياً لتصنيع قنبلة واحدة، فيمكن تحديد مدى صحة هذا الخط الأحمر استناداً إلى أمرين. أولاً، هل يلبي المعايير التي يتطلبها أي خط أحمر (المصداقية والقدرة على إنفاذ القرار)؟ ربما تتمتع إسرائيل بالمصداقية اللازمة نظراً إلى تاريخها في مجال الضربات الاستباقية على البرامج النووية التي يعدها الخصوم، لكن القدرة على إنفاذ القرار مسألة أخرى، يمكن رصد ذلك الخط الأحمر، لكن كثيرين (منهم إيران) يشككون في قدرة إسرائيل على تطبيقه وحدها.

بما أن خطوطاً حمراء متعددة تلبي هذه المعايير، لا بد من طرح سؤال ثان: هل يتماشى الخط الأحمر الذي رسمه نتنياهو مع سياستنا المزدوجة التي تهدف إلى منع إيران من اكتساب سلاح نووي تزامناً مع تأخير الصراع العسكري لأطول فترة ممكنة؟

بما أن المسؤولين في إدارة أوباما عبروا علناً عن شكوكهم بقدرة إسرائيل على تدمير البنى التحتية النووية الإيرانية، واعتبروا أن الولايات المتحدة ستحصل على الوقت الكافي للتحرك عسكرياً حتى بعد أن تتجاوز إيران الخط الذي رسمه نتنياهو، من المستبعد أن يعتبروا ذلك الخط الأحمر مرضياً.

لكن بعد تصريح نتنياهو الواضح، من واجب إدارة أوباما أن تعلن عن خط أحمر يتماشى بشكل أفضل مع الأهداف الأميركية ومعيارَي الإنفاذ والمصداقية. في ما يخص المصداقية، أضعفت الولايات المتحدة نفسها على جبهات عدة، وذلك من خلال مواجهة التحدي الإيراني بعروض أفضل على طاولة المفاوضات ومن خلال التردد في فرض العقوبات والسماح لكبار المسؤولين بمعارضة الخيار العسكري علناً مع أن الرئيس يصر على أن ذلك الخيار لا يزال وارداً.

أوباما محق لأنه يريد تجنب الصراع مع إيران، لكن كي لا يُفسَّر صبره على أنه خوف من الفريق الآخر وكي لا يتجاهل الحلفاء والخصوم التحذيرات الأميركية، من الأفضل أن يتجاوز كرهه للخطوط الحمراء.

* مايكل سينغ | Michael Singh ، مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. بين عامي 2005 و2008، عمل في قسم شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي.