نقلت في مقال سابق تحت عنوان "على هامش الفيلم المسيء للرسول أن هيلاري كلينتون قالت تعليقاً على هذا الفيلم: "إن بلادنا تملك تقليداً عريضاً عن حرية التعبير تكرس في دستورنا وقوانيننا، لا نستطيع معه منع مواطنين من التعبير عن وجهة نظرهم حتى إذا كان ذلك لا يروق لنا".

Ad

حرية لا أخلاقية

يقول الكاتب الأميركي وليم ديوارنت مؤلف الكتب المعروفة في تاريخ الفلسفة الأميركية "لقد كنا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نتمتع بحرية اقتصادية أكثر مما يجب، ونحن اليوم على مقدار من الحرية الأخلاقية أكثر مما يجب". ومعروف أن الشيء إن زاد عن حده انقلب إلى ضده، أي ان الحرية الأخلاقية في أميركا، وقد أصبحت أكثر مما يجب- باعتراف الكاتب والفيلسوف الأميركي- قد انقلبت إلى حرية لا أخلاقية . ويقرر وليم بأنه ليس متعصباً في تقديس الحرية، ويرجع ذلك- في رأينا- إلى ما قرره من:

* ان الحرية إذا طغت على العقل خلقت الفوضى... والفوضى تنبت الدكتاتورية.

* ان حرية الفرد تختلف تبعاً لسلامة المجموعة.

الفن والإبداع

إن حرية التعبير كأي حرية أخرى، ليست هدفاً في ذاتها، بل هدفها أن يكون الحوار متصلاً بين الناس، وبين الجماعات، وبين الدول، وهو ما أصبح يطلق عليه الآن "حوار الحضارات" بدلا من "صراع الحضارات" الذي دعا إليه الكاتب الأميركي صمويل هينينغتون. ولئن كان الفيلم المسيء للرسول قد افتقد كل مقومات وعناصر الفن سواء في قصته أو في إخراجه أو في تمثيله أو في حواره، إلا أن الفن كذلك ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق التواصل بين الناس وبين المجتمعات، وأن غايته الأولى هي تحقيق الإبداع.

الإبداع في رأي القضاء

وقد عرضت المحكمة الدستورية العليا في مصر للإبداع في الفن، وأحكامها في حماية الحرية وحقوق الإنسان تدرس في الجامعات في الولايات المتحدة الأميركية فقالت عن الإبداع:

الإبداع- علمياً كان أم أدبياً أم ثقافياً أم فنياً، ليس إلا موقفاً حراً واعياً يتناول ألوانا من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها، وتتباين طرائق التعبير عنها، ليصبح عملاً ذهنياً وجهداً خلاقاً، فلا ينغلق على المبدع استئثاراً، بل يتعداه إلى الآخرين انتشاراً، ليكون مؤثرا فيهم (القضية رقم (2) لسنة 15 قضائية دستورية- جلسة 4/ 1/ 1997) فأين تأثير هذا الفن الهابط في رقي المجتمعات وتقدمها. وللحديث بقية حول تشويه التاريخ في هذا الفيلم، والتاريخ ملك الإنسانية كلها.

على هامش حكم «الدستورية »

أصاب قضاء المحكمة الدستورية في حكمها الصادر بجلستها المعقودة بتاريخ 25/ 9/ 2012 برفض الدعوى المقامة من الحكومة طعناً بعدم دستورية القانون رقم (42) لسنة 2006، المقام على أساس الفارق الكبير بين أعداد الناخبين في كل دائرة، وهو ما اعتبرته المحكمة من الملاءمات التي يقدرها المشرع، والتي لا تنهض سبباً للحكم بعدم دستورية هذا القانون.

وهو قضاء يتفق وإرادة الآباء الأوائل أعضاء المجلس التأسيسي، الذين أقروا المادة (81) من الدستور، في ضوء تفسير الخبير الدستوري لحكم هذه المادة، الذي تلاه على المجلس، فأقروا ضمناً هذا التفسير، وهو التفسير الذي طرحته في المقال المنشور بعدد "الجريدة" يوم الأحد 16/ 9/ 2012 تحت عنوان "تقسيم الدوائر الانتخابية" الذي قلت فيه بالحرف الواحد:

"إن المجلس التأسيسي أقر ضمناً تفسير الخبير الدستوري لحكم هذه المادة وهو تفسير من شقين:

الأول: أن هذه المسألة لا تتناولها الدساتير، بل مجالها القوانين.

والثاني: أن الدستور عندما ترك للمشرع تنظيم هذه المسألة لم يقيده في ذلك بأن يكون التقسيم بحسب عدد السكان أو بحسب التقسيم الجغرافي، بل ترك ذلك لتقدير المشرع".

ومن هنا فإن الرقابة القضائية التي ستسلطها المحكمة الدستورية على قانون الانتخاب، وهي رقابة لا تتقيد بغير أحكام الدستور، تتقيد بما تبناه الآباء الأوائل الذين وضعوا هذا الدستور ممثلين في المجلس التأسيسي من تفسير صحيح لهذه المادة عبر عن الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري، فما أغناها المحكمة بهذا التفسير عن أن ترد المورد الصعب الذي يقحمها في مسائل تتعقد جوانبها وتختلف الآراء حولها، في الطعن المقام أمامها.