نسمة الفجر، والخيط الأبيض ينسل من الخيط الأسود...

Ad

والقلبُ معلّقٌ يتدلى من شرفة السطح السماوي المستدير،

يرنو إلى الموجة البشرية الملتبسة بالبياض والتهجّد، وهي تدور وتدور حول البيت المعتق بما يشبه رعشة الوجد...

همهمات مهيبة، ودموع كالبلور تغيم من ورائها الأعين،

لتغتسلَ بجلال الرؤية:

"الحمد لله الذي شرّفكِ وعظمكِ وطهّركِ، وجعلكِ مثابة للناس وأمناً مباركاً وهدىً للعالمين".

حاسرو الرؤوس يرفلون بالأبيض المشعّ...

وعلى يسارهم الحجر الأسود، والرتاج، وذيول المخمل المذهّب...

وعلى يمينهم الأقواس المشرئبة، والهادرون في مسعى المطهر، يهرولون وذنوبهم تتساقط تحت أقدامهم الحافية كأوراق الخريف.

يدورون ويدورون عكس عقارب الساعة، وعكس عقارب الزمن الدنيوي... ليتماهوا في زمن آخر أكثر اندياحاً وسعةً ونورانية.

في الحج العظيم، تحج الروح من محدوديتها وضعفها وهشاشتها إلى سماء تبدو قريبة ودانية، وتتعرف في هذا المعراج الروحي إلى ألف باء العشق، عشق لا يحتاج إلى جمال صورتك أو هندامك أو شبابك الغض لكي تلقى القبول وتدخل تحت جناح الرحمة. بل لعل رثاثتك وفقرك وانكسارك مقدمات بدهية للقربى والوصل وزينتك الحقيقية يوم الزينة، وعلاماتك للنقاء القلبي والتهيؤ للطيران.

هناك يكتسب المكان أبعاده المعنوية ولا يعود محسوساً من محسوسات النظر أو اللمس، وإنما تبدو المشاهد من حولك غائمة غارقة في ما يشبه النور والضباب، والموجة البشرية تنداح كسديم أبيض، وسواد الكعبة يتألق نوراً... فتتساءل كيف لسوادٍ أن يكون بكل هذا البهاء والنضرة! لتشعر بعدها بأن منتهى أمانيك تبلورت بتلك الجلسة الضامرة المتحفزة في صحن الحرم وقد شخص بصرك طويلاً في ذلك الجلال الأسود الذي لا يمله البصر ولا تخطئه البصيرة.  

هناك حيث لا مكان لأفراحك وأحزانك الدنيوية، ولا وقت لتعداد انتصاراتك وانهزاماتك في عالم الأرباح والخسائر القميء. هناك لا مكان ولا وقت إلا لفرحك الأكبر الذي تذوب إزاءه كل آلام الدنيا ومسراتها، فتتذوق طعم النعيم مكنوناً في لحظتك التي تتفتح كالوردة، ناشرة عَرْف وجدك ووجودك وماهيتك البشرية.

وهناك، في أعلى عليين، ربٌ كريم، واسعٌ عليم، يرنو إلى عباده بابتسامة كفلق الصبح، ويمسح على رؤوسهم بكف رحمته، فيشرقون بالدمع استجابةً وخضوعاً:

لبيك اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك

إن الحمدَ، والنعمةَ لكَ والمُلك، لا شريكَ لك